الرئيسية » اراء ودراسات » ال”كورونا” إذ تحطم صورة الفرد الغربي السعيد

ال”كورونا” إذ تحطم صورة الفرد الغربي السعيد

يرسل الغرب صورة نموذجية لبقية العالم يمكن اختصارها بنمط حياة الفرد المقدس الحر السيد المستقل الذي لا روابط ما قبل رأسمالية تقيده ولا حساب يؤديه لأي كان في كل ما يتصل بحياته الخاصة. يمكنه ان يعقد زواجا مثليا ويمكنه ان ينجب من خارج الاسرة والعائلة، ويمكنه ان يستأجر حاضنة لبويضاته وشريكته، ويمكنه ان يلحد ويؤمن ويشتم الالحاد والايمان. علاقات الاسرة خاضعة لقرار منه ومن شركائه فيها، لا قيم ومعايير تقيده غير ما يراه مناسبا… يمكن للفرد ان “يستثمر موته” ببيع منزله لقاء راتب شهري يأتيه من الشاري الذي يحصل على المنزل عندما يموت صاحبه، فان توفي بعد سنة من العقد يكون الربح وفيرا وان توفي بعد عشرين سنة يكون الشاري قد اشترى بيتا بالتقسيط كغيره من المستثمرين …

صورة الفرد الغربي السعيد يمكن اختصارها نمطيا بذلك الذي يعمل طيلة حياته من اجل توفير رواتب التقاعد للمسنين الذين وفروا بدورهم رواتب التقاعد لمن سبقهم. وللمزيد من التفصيل اشير الى العقد الذي يوقعه الموظف مع رب العمل في فرنسا وينص على ان يدفع ضريبة توازي 35 الى 40 بالمئة من قيمة العقد ويدفع رب العمل 60 بالمئة (ربما وقع بعض التعديلات خلال السنوات الاخيرة لكن القاعدة ما زالت هي نفسها)

الصورة التي تصل الى العالم عن الفرد الغربي هي لذلك الذي يمضي سنوات تقاعده في منزل ريفي مع حديقة فسيحة مزهرة وسيارة فخمة. هو ذلك الذي يمضي القسم الاكبر من وقته مسافرا الى انحاء مختلفة من العالم، هو ذلك الذي يستفيد من فارق مستوى الحياة بين الغرب ودول العالم الثالث فينتقل الى العيش في احدى تلك الدول برتبة اجتماعية مميزة حتى وان كان تقاعده محدودا.

تقوم حول المتقاعدين في الغرب وبخاصة في اوروبا صناعة متعددة الاختصاصات وتستثمر رساميل هائلة الامر الذي يشير الى موقعهم المحوري في نمط الحياة الغربية لذا نلاحظ نفوذهم في رسم الخرائط السياسية في العديد من البلدان الاوروبية. ولعل وجودهم في قلب العقد الاجتماعي الغربي هو الذي انقذهم من مصير صادفه كبار السن في تاريخ اليابان حيث كانوا يؤخذون متى تقدم بهم العمر الى اعالي الجبال فيلقون مصيرهم في وحدة موحشة.

بيد ان الوجه الاخر لهذه الصورة يكمن في تحول المجتمعات الغربية الى مجتمعات ذات قاعدة ديمغرافية كهلة: ان بلدا كإيطاليا يخسر سنويا نسبة من سكانه دون ولادات تعوضها، مرشح للانقراض خلال قرن. لذا اعتمدت الهجرة وتعتمد كحل لردم الهوة الديموغرافية ولخدمة المتقاعدين في حالات كثيرة. يمكن لمن يهمه الامر ان يراقب في الشوارع متقاعدين مسنين رفقة شبان او شابات اجانب او من اصل اجنبي  يرافقونهم لقاء اجر.

ان المجزرة التي تعرض ويتعرض لها جيل الكبار في السن في اوروبا جراء وباء الكورونا غير مسبوقة. هم سقطوا ويسقطون بالالاف، ليس فقط جراء الوباء وانما ايضا عبر “اولويات” العلاج او ما صار يعرف بأوروبا ب “انتقاء” المصابين  ذلك ان البنى التحتية الطبية لم تكن مهيئة لاستقبال الالاف منهم في وقت واحد وبالتالي صار الجهاز الطبي مضطرا لتوفير فرص العلاج للشبان وحجبها عن المسنين.

لا يمكن تحميل الكورونا وحدها نتائج الانكشاف الذي طرأ على الانظمة الصحية في فرنسا وايطاليا واسبانيا وبلجيكا وبريطانيا وغيرها ذلك ان الموجة الليبرالية التي سادت العقدين الماضيين ادت الى تغييرات اساسية في اقتصاديات الدول الاوروبية مع غلبة للرساميل المتوحشة وانحسار لأنظمة الرعاية الاجتماعية ومن بينها نظام التقاعد الذي استهدفته في فرنسا مؤخرا حكومة الرئيس ماكرون. ولعل المتابعين لحركة السترات الصفراء لاحظوا بوضوح اشتراك نسبة كبيرة من المتقاعدين في المسيرات الدوروية كل نهاية اسبوع.

حطمت الكورونا صورة المتقاعد السعيد في الغرب مرة واحدة والى الابد، هذه الصورة التي سيكون من الصعب ترميم اجزاءها المحطمة ولربما بوسعنا، مع بعض التحفظ، ان نذهب الى ابعد من ذلك حيث يبدو واضحا الى حد كبير ان النظام الاجتماعي الغربي والاوروبي بخاصة بات غير قابل للحياة بشروطه السابقة. وبهذا المعنى يمكن القول ان للمسنين في الغرب كلمتهم بعد الكورونا، اقله من اجل ان يمضوا بإرادة ربهم الى الدار الاخرة وليس بإرادة طبيب او ممرض دفعته الظروف لان يلعب دور عزرائيل.

رأي فيصل جلولــــــــــــــــــــــــــــال"كورونا" إذ تحطم صورة الفرد الغربي…

Posted by Jalloul Faysal on Wednesday, April 1, 2020

عن فيصل جلول