ما يجري في مخيّم جباليا، ليس مجرد اشتباك عسكري بين قوّة غازية، وعناصر من المقاومة في إطار “حرب عصابات”. وعلى الرغم من أهمية ذلك بحد ذاته، إلا أن الدلالة الأكثر عمقًا للمنازلة المفاجئة الجارية في المخيّم الأكبر في قطاع غزة، أن إسرائيل غارقة أكثر مما تقر به فعليًا، وهي بذلك تكرّر خطيئة الولايات المتحدة، عندما كانت منغمسة في “مستنقع فيتنام”.
والوضع هنا لا يتعلّق بـ “ممر هو تشي منه” وفق التجربة الفيتنامية. ففي غزة، ما من معابر وممرات جبلية ولا غابات، ليتمكّن المقاومون، من سلوكها لنقل عناصرهم والسلاح مثلما جرى بالنسبة لمقاتلي “الفيتكونغ” في فيتنام عبر لاوس وكمبوديا. مصر معزولة، أو منكفئة تمامًا عن الساحة الغزاوية. ولا حدود لغزة مع العالم.
ولهذا، فإن وقائع جباليا، تشير إلى “معجزة”.
وبينما يقول قيادي في حركة حماس لموقع “The Cradle” إن ادعاء إسرائيل سيطرتها على شمال القطاع ووسطه قبل تركيزها على الهجوم باتجاه الجنوب، كان مجرد إشاعات زائفة، وإن المقاومة لا تزال تحتفظ بقوتها، في السيطرة والقيادة، يقول المتحدث باسم حركة الجهاد الإسلامي محمد الحاج موسى لموقع “The Cradle”: “نحن مستعدون لمعركة استنزاف طويلة”.
المخيّم الذي أحالته إسرائيل خرابًا كاملًا، ما بعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي، بعدما غزته في بداية الحرب ليكون بمثابة درس تهجيري تلوّح به إسرائيل مهدّدة من شمال قطاع غزة، لأهل الوسط والجنوب، تحوّل فعليًا، وفق أكثر التوصيفات اعتدالًا، إلى “حرب استنزاف”. جيش الاحتلال غارق في هذه الأثناء في “مستنقع” فعلي.
وهي “معجزة”، لأن قوات الغزو كانت أعلنت في بداية كانون الثاني/يناير انسحابها من جباليا بعد اكتمال “تطهيره”، والقضاء على قيادات المقاومة فيه، قبل أن تستأنف توغلها من شمال القطاع للالتقاء بقواتها الغازية في الوسط، ثم باتجاه الجنوب، وصولًا قبل أيام إلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح.
الثقة التي أوحى بها الجيش الإسرائيلي بإعلان انسحابه من جباليا قبل نحو 5 شهور، يفترض أن تعني أن الأمور استتبت له بالكامل على الأرض. لكن يبدو أن ذلك لم يتحقّق. الخسائر المعلنة إسرائيليًا، تؤكّد أن منازلة حامية الوطيس تجري هناك منذ أيام. المصدر القيادي في حماس يقول إن خطة “جز العشب وهي عبارة عن استراتيجية مفادها أنه كلما نمت المقاومة سيتم جزها، التي يطبقها الاحتلال، لم تنجح لأنه لم يستطع حتى اللحظة وبعد 225 يومًا، من إحراز التقدم الذي يريده”.
شمال غزة ليست تحت قبضة جنود الاحتلال مثلما ادعت إسرائيل. في مستهل حربها على غزة، تحركت قوات الغزو من عدة محاور باتجاه القطاع، وتحديدًا من حي العطاطرة وبيت لاهيا وبيت حانون والشجاعية في الشمال والشمال الشرقي، ومن محاور الوسط تقريبًا في جحر الديك وحي الزيتون باتجاه الشيخ عجلين بالقرب من ساحل البحر، فأحكمت بذلك سيطرتها – أو هكذا قالت وقتها – على شمال القطاع. لكنها في شهر كانون الثاني/ يناير أعلنت إعادة انتشار لقواتها، بالانسحاب من غالبية مناطق الشمال، والتمركز بشكل أساسي في محور حي الزيتون، لتتحرّك منه باتجاه المناطق “المطهرة” التي تواصلت فيها عمليات المقاومة.
وتقول مصادر في المقاومة الفلسطينية، إنه حتى حي الزيتون الذي شكّل معقلًا رئيسيًا لقوات الغزو للتصدي والتعامل مع نشاط من يمكن تسميتهم بأنهم “الفيتكونغ الفلسطيني” في نطاق شمال القطاع، لم يكن أرضًا مستقرّة للجنود الإسرائليين، حيث خرج المقاومون من بين الأنقاض والركام ومن تحت الأرض، لخوض حرب استنزاف حقيقية ضد آلاف الجنود المتمركزين فيه.
المفاجأة الجديدة الآن، أن جباليا تحوّلت إلى بؤرة مشتعلة. الهجمات المعلن عنها إسرائيليًا وفلسطينيًا، أوقعت خلال الأيام الماضية عشرات القتلى والجرحى، والعديد من المواجهات تجري من “المسافة صفر”.
مصادر المقاومة تستعرض بعض ما يجري مشيرة الى استخدام كافة أنواع الأسلحة المتفجرة لتنفيذ الكمائن والهجمات: “عبوات الشواظ” و”التاندوم” لتدمير دبابات الميركافا والعربات المدرعة الأخرى، وقذائف “الياسين 105″، وعبوات تفخيخ المنازل بصواريخ وقذائف لم تنفجر خلّفها الاحتلال في غاراته منذ بداية الحرب، لتفجيرها بالجنود المتحصنين داخلها، وذلك بالإضافة إلى عمليات القنص التي لا تتوقف، وإطلاق قذائف الهاون المتنوعة، والخروج المباغت من الأنفاق والاشتباك وجهًا لوجه مع جنود العدو.
القيادي في حماس يؤكّد لـ “The Cradle” أن هذه العمليات توضح “فقدان الجيش الإسرائيلي السيطرة”، مضيفًا أن هذا الجيش “ليس مستعدًا لمعارك طويلة ومتعدّدة الجبهات، وهذا ما جعله يفقد توازنه وبدأ في الوقت ذاته يخسر النظرية التي أقيم عليها، أي الردع والعمليات الاستباقية”.
المفارقة المخزية لمعركة جباليا بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو أنه كان قبل عشرة أيام يقول متباهيًا أن قواته دمّرت 20 كتيبة لحماس من أصل 24 كتيبة. الكتائب الأربعة المتبقية حسب ترويجه المضلّل، تتمركز في رفح، في أقصى الجنوب على الحدود مع مصر، ولهذا يتحتّم على إسرائيل غزوها.
ويعني هذا الكلام فيما يعنيه أن معركة شمال القطاع انتهت بالنسبة إليه، وأن الحرب بمجملها تشارف على الحسم، إذ لم تعد مرتبطة سوى بوجود الكتائب الأربعة لحماس في أقصى الجنوب، وليس عليكم أيها الاسرائيليون، والاميركيون، ومن يهمهم الأمر، سوى أن تصبروا علينا قليلًا لأن إسرائيل على وشك تحقيق الهدف الأول والأهم المعلن منذ 7 أكتوبر: القضاء على حماس، وأضاف عليها لاحقًا، فكرة أن النصر لن يتحقّق سوى باستئصال حماس وقطع شرايينها في رفح.
لكن نتنياهو وهو يعلن ذلك بثقة، ويبحث مع عصابته عادة، عن أي إشارة أو معلومة لتعزيز صورة “الانتصار” لنظام الفصل العنصري، أو أقله الادعاء بأنهم يمسكون بزمام الأمور، كان يواجه درس “الفيتكونغ الفلسطيني”: الخداع، الكمائن، التخريب، التجسّس، التضحية، والصبر.
جباليا، هي الصفعة المدوية لنتنياهو. هي التقويض الميداني لفكرة أن “النصر” الإسرائيلي وشيك، وأن كل هراء الخطط المطروحة، إسرائيليًا وأميركيًا وعربيًا، سواء لاحتلال غزة، أو إدارتها، أو فرض سلطة عليها، ستبوء بالفشل المدوي. جباليا تعني أيضًا أن “أهداف الحرب” العدوانية لنتنياهو وعصابته، ليست بمتناول اليد حتى الآن.
محمد الحاج موسى، ممثل الجهاد الإسلامي، يقول إن ما تظهره المنازلة العسكرية في جباليا، وفي رفح أيضًا حيث تتزايد خسائر قوات الاحتلال هناك، أن إسرائيل “لم تستطع على مدار نحو ٨ شهور أن تصل إلى أي من أهدافها المعلنة في غزة، لا على مستوى اجتثاث المقاومة ولا إخراج الأسرى الصهاينة”، وأنها، أي إسرائيل، برغم الدعم الأميركي والغربي في كافة المجالات وخصوصًا على الصعيدين الأمني والعسكري، لم تتمكّن من فرض سيطرتها لا على جباليا، ولا على غيرها، مؤكدًا أن “سرايا القدس”، الجناح العسكري للحركة، لا تزال حاضرة على امتداد قطاع غزة ولا خوف على المقاومة.
يؤكّد تصريح الحاج موسى، ما يردّده الخبراء من مختلف الاتجاهات والانتماءات، وحتى في أوساط بعض القيادات داخل الإدارة الأميركية نفسها، أن إسرائيل بعيدة عن النصر حتى الآن، فلا هي أمسكت بالأرض فعليًا، ولا هي حرّرت أسراها، ولا هي قتلت كبار قادة المقاومة، ولا هي وضعت خطة ذات مصداقية لـ “اليوم التالي”، والأهم أنها أيضًا لم تدمّر “متاهة” الأنفاق. وبعدما كانت الشكوك تشير إلى أنها ستتوه أمام معضلة أنفاق غزة اللامتناهية، تظهر معارك جباليا أن إسرائيل ضائعة في متاهات ما فوق الأرض، وليس تحتها فقط.
سبق لإسرائيل أن قالت أنها قتلت أكثر من 13 ألف مقاوم من حماس، بينما كانت تقول في مستهل الحرب إن لدى الحركة (حماس وحدها) ما بين 30 إلى 40 ألف مقاتل. هناك من يكذب في إسرائيل، إذا استعدنا نظرية نتنياهو حول “الكتائب الأربع” الباقية. لكن ميدانيًا، هناك من لا يزال يقاتل، وبضراوة، في الشجاعية وجباليا وحي الزيتون ودير البلح، وصولًا إلى رفح جنوبًا.
ويقول القيادي في حماس لـ “The Cradle” إن القوات الإسرائيلية تواجه استنزافًا حقيقيًا في جباليا وغيرها، استهلك آلياتها من دبابات ومدرعات أمام ضربات المقاومة، وأصبح يجبرها ذلك على العودة إلى استخدام آليات عسكرية من الأجيال الأقدم، والأقل تحصينًا وتطورًا، وهو ما يفسر تزايد أعداد القتلى والجرحى في صفوف جنود الاحتلال المعلن عنهم في الأسابيع الأخيرة.
وإذا كان نتنياهو يراهن على أن إخضاع جباليا ورفح وغيرهما، كان سيفضي، وهو يتعرض لانتقادات داخلية متزايدة، إلى تسهيل قدرته على التفاوض من أجل إطلاق سراح أسراها، فإن انقلاب الميزان في جباليا والشمال عمومًا، سيدفعه باتجاه الرضوخ أمام صفقة تظهره أكثر استسلامًا، أو ربما تدفعه إلى اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام، تنصلًا من هزيمتين: سياسية بين عصابته الحاكمة وجمهوره، أو عسكرية على أرض جباليا وأخواتها.
محمد الحاج موسى، ممثل الجهاد الاسلامي، يقول إن المقاومة الفلسطينية معنية بالوصول إلى صفقة تضمن وقف إطلاق والنار وانسحاب قوات الاحتلال ولكن إذا أصر نتنياهو على حرب الإبادة واستمر في عرقلة المفاوضات، فنحن مستعدون لمعركة استنزاف طويلة”. أما “حديث نتنياهو وقادة الاحتلال عن النصر المرتقب فما هو إلا وهم، وما هي إلا شعارات لا تمت للحقيقة بصلة”.
لا بد من التنويه إلى أن المقاومين في جباليا، هم من أحفاد اللاجئين الأوائل من نكبة العام 1948، وخصوصًا من أجبروا على النزوح من المدن الفلسطينية في اللد والرملة ويافا وبئر السبع وأسدود. 75 عامًا من الاحتلال لم تثمر سوى معادلة وحيدة، عبّر عنها أبو عبيدة، الناطق باسم حماس قبل أيام، عندما قال “مستعدون لمعركة استنزاف طويلة مع العدو”.
المقال منشور بالانكليزية
على موقع The Cradle
https://thecradle.co/articles/the-battle-of-jabalia-a-palestinian-lesson-in-war-of-attrition