خليل حرب
مسافة طويلة تلك التي قطعتها المقاومة، منذ ان وضعت الخطوة العفوية الاولى وانطلقت الرصاصة الاولى، وتشكلت الهياكل الاولى. ولهذا، فان المناورة العسكرية التي نفذها “حزب الله” في عرمتى، في قلب الجنوب، وعلى بعد كيلومترات من الحدود مع فلسطين، في خطوة علنية هي الاولى من نوعها منذ العام 2006، تختصر الكثير، وتحمل في الوقت نفسه، 3 رسائل أساسية.
متى كان يجرؤ لبنان، ان يتباهى بقوته؟ لماذا غرزت في أفكارنا ان “قوته بضعفه”؟ اي استهانة بالاوطان هذه؟ لماذا لم يولد هذا الجيل الذي يؤمن بنفسه، من قبل؟ الجيل الذي يعتقد ان من حقه ان يثابر، فينال، وان يفكر ويجتهد، فيصل؟ لماذا كان مكتوبا على اللبنانيين الاحساس الدائم بالخنوع والعجز؟
لماذا كان يجب علينا ان نترعرع في وطن بائس بعجزه وضعفه؟ أي ضعف هذا الذي حمانا وصان أعراضنا وأرضنا؟ متى حدث ذلك؟ في أي عهد؟ في أي زمن؟ لماذا لم يظهر من قبل ذلك الذي يصرخ في وجه عدو:مصافحتك اعتراف؟ لماذا كان علينا ان ان نرى المذبحة تلو المذبحة، والشهيد تلو الشهيد، ولماذا كان على حولا وصلحا ويارين وبنت جبيل ان تذوق هذا الموت مبكرا؟
هل يدرك اللبنانيون معنى ذلك فعلا؟ ان تتعايش مع العجز والخوف من عدوك وهو في سمائك وعلى تلالك وعلى حدودك، يقتل من يشاء، ويأسر من يشاء، ويذل من يشاء. ان تحترق طائراتك في مطارك الدولي وانت “قوي بضعفك”! ثم يمنع عنك السلاح، ويمنع عنك الرد ويمنع عنك ان تحتج، أو ان تقاوم.
ان تحمل كاميرتك الاولى كصحافي ويكون “انجازك” المهني الاول، جثة سبعيني يعمل في حقله. هكذا بكل بساطة قتلوة بقذيفة لانه كان بين شجيرات أرضه في كفرتبنيت، وها هو الان ممد أمامك لكي تلتقط الصورة الاولى..لعجزك!
مسافة طويلة تلك التي قطعها اللبنانيون، وانت تترقب من بعيد، أخوة وأصدقاء وأقارب، ربما يحاولون الفرار من “معسكر أنصار” والعدو يطلق في السماء قنابله المضيئة ليلا لملاحقتهم.. أو قتلهم. كان عليك خلالها ان تنتظر عاجزا، أخبار الشهداء في اليوم التالي، ان عثروا على جثثهم.
في عرمتى، لم يكن هناك مكان للخوف. شاهدت شبانا، ربما جدهم او عمهم او خالهم، إنطفأت أرواحهم في ذلك الزمن برصاص “قوة لبنان بضعفه”. وعلى بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع فلسطين المحتلة، حيث نصب العدو جدرانا اسمنتية وابراج مراقبة وحقول الغام وكاميرات حرارية متطورة، لانه يدرك الجريمة/الجرائم التي ارتكبها – ولا يزال – وان هناك من جلس وخطط وفكر وثابر ليطيح بمعادلات العجز، لكي يولد جيل جديد من هؤلاء الشبان، أبناء تحرير ال2000.
وعلى مشارف الذكرى ال23 لاجبار العدو على الانسحاب من غالبية لبنان، وتحت أنظار مئات الضيوف بينهم العشرات من الاعلاميين والمصورين المحليين والعرب والاجانب، نفذت مجموعات مقاتلة من “حزب الله”، مناورات بالذخيرة الحية، تخللها الهجوم على مستوطنة افتراضية واقتحامها، وعملية لأسر جنود اسرائيليين، ومهمات قنص دقيقة ومكثفة على مواقع افتراضية للعدو.
والى جانب الهجمات بالصواريخ، تخلل المناورات التي شارك فيها نحو 200 من المقاتلين المدربين، عمليات استطلاع لطائرات مسيرة، بالاضافة الى شن هجوم صاروخي بطائرة مسيرة مسلحة على موقع اسرائيلي افتراضي وتدميره. ولقد صار لنا شي في السماء، بعدما كانت السماء، من مصادر خوفنا، لان هناك من خطط وفكر وثابر.
صحيح ان العلاقات الاعلامية في حزب الله التي نظمت هذه المناسبة الاولى من نوعها بحضور هذا العدد الهائل من الاعلاميين (بالتعاون مع اللقاء الوطني الاعلامي)، أرادت احياء ذكرى التحرير بالتأكيد، الا انه كانت هناك أيضا رسائل عدة في الشكل والمضمون: أولا نحو العدو، وثانيا اقليميا، وثالثا لبنانيا.
في اسرائيل، هناك الحكومة الاكثر تطرفا. حتى نتنياهو يبدو حمامة مقارنة بحلفائه في الحكم. هناك دعوات علنية، لمحو القرى الفلسطينية، ولطرد الفلسطينيين او ذبحهم، وتهجيرهم على الجوار، سواء كان لبنانيا او اردنيا او مصريا. هناك تشريع قانوني لتشكيل “عصابات” مسلحة باسم “الحرس الوطني” لتقتل كما تشاء، من خارج هياكل قوات الاحتلال “الرسمية”. هناك ايضا خطط تتنامى على مكاتب جنرالات اسرائيل، ل”التعامل” مع التهديد المتراكم المتمثل بترابط ساحات المقاومة، سواء في الشمال مع لبنان، او جنوبا مع غزة، وصولا الى الميدان الاقليمي الاوسع.
مناورة عرمتى، جاءت بعد ايام على انتهاء معركة “ثأر الاحرار” التي خاضتها المقاومة الفلسطينية ردا على الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة، والتي ليس اخرها، قمع المصلين داخل المسجد الاقصى، واغتيالات شبه يومية لكوادر وشبان القرى والبلدات والمدن والمخيمات.
وهناك من فكر في اسرائيل بان لبنان يمكن ان يكون لقمة سائغة. لهذا كان لا بد من رسالة. السيد هاشم صفي الدين قال في كلمته “إذا فكرتم يوما توسيع عدوانكم للنيل من المعادلات التي صنعناها بدمائنا وقدرتنا، سنمطركم بما لا تستطيعون رده وستشهدون أياما سوداء”. ويقول ايضا “راقبنا قدراتكم جيدا خلال المعركة أمام أبطال سرايا القدس في غزة والمقاومين الفلسطينيين، وعرفنا عجزكم عن إحداث معادلة جديدة، ولهذا حذر “العدو من ارتكاب حماقة وتجاوز قواعد اللعبة”.
هذه هي الرسالة الى اسرائيل. وفي الوقت نفسه، فان المقاومة تظهر ايضا رصانتها وحرصها، وهي مدركة ما يجري في الاقليم من تحولات واحداث، بما في ذلك ما جرى في القمة العربية، والعودة السورية، والزيارة الايرانية التاريخية الى دمشق ايذانا بحقبة جديدة، وفي المصالحة الصينية بين السعودية وايران.
ولهذا فان صفي الدين وهو يقول ان “مقاومة اليوم هي قوة ممتدة ومحور كامل سيبقى يتطور من غزة والضفة والداخل المحتل ولبنان انطلاقا من الجمهورية الإسلامية في إيران” وان “ما يعمل عليه العدو لتفكيك جبهات المقاومة، خيالي”، يحرص على التأكيد بان “الأجواء الإيجابية في المنطقة فرصة ثمينة لا يجوز تضييعها وليس هناك غاية أسمى من أن تكون مقاوماتنا موحدة لرفع الظلم عن شعوبنا، وليس هناك أفضل من أن يكون العدو الواحد لجميع العرب هو الكيان الصهيوني”.
هذه هي الرسالة الاقليمية. لكن الرسالة اللبنانية، لا تقل اهمية لمن يود ان يستمع اليها فعليا. فالمقاومة جاهزة لتثبيت “معادلة الردع التي حمت لبنان وحمت ثرواته”، كما يقول صفي الدين. وللبنان كما يذكر، اراض لا تزال محتلة، ولا بد من تحريرها. والاهم ايضا ان لا “عدو” للمقاومة في الداخل اللبناني، وان على ابناء هذا الوطن “أن يزدادوا طمأنينة”، وان “على العدو وحده أن يخاف من هذا السلاح”، لان المقاومة التي كانت جيلا واحدا، صارت اليوم أجيالا.
في العودة من عرمتى، يهدأ دوي الانفجارات ورصاص القنص المكثف في المناورة. تتزاحم الافكار… كم كانت الطريق طويلة!