الرئيسية » اراء ودراسات » حرب السودان: أبعد من صراع رجلين وأقل من حرب اقليمية

حرب السودان: أبعد من صراع رجلين وأقل من حرب اقليمية

لم يعهد السودان فترات طويلة من الهدوء والسلام، وهو حاله منذ ما قبل الاستقلال عن بريطانيا في العام 1956، لكن الصراع الحالي بين قائد الجيش السوداني الفريق اول عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”، كشف ليس فقط عن عمق الخلافات الداخلية، وانما أيضا عن الابعاد الخارجية للحرب، وتداعياتها الاقليمية المحتملة.

ولا تشير التطورات خلال الايام الاخيرة الى ان القتال الذي نشب فعليا في 15 ابريل/ نيسان الحالي، مقبل على نهاية وشيكة، حيث يتوعد الرجلان، البرهان وحميدتي، بانهما سيواصلان معركتهما، الى ان يتخلص احدهما من الاخر، وهو ما ينذر بسقوط هذه الدولة التي تعتبر من بين اكبر الدول العربية والافريقية مساحة، وعلى تماس مع منطقة ملتهبة اصلا، في اتون حرب اهلية لا تبقي ولا تذر.

ولطالما وصف السودان بان بمقدوره ان يكون السلة الغذائية للعالم العربي، بالنظر الى خصوبة اراضيه ووفرة المياه، لكن فشل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، والتخبط السياسي والامن والانقلابات، بالاضافة الى تفشي الفساد، جعل السودان من بين اكثر الدول العربية فقرا وافتقارا الى البنى التحتية في كافة القطاعات.

لكن معاناة السودانيين تفاقمت بعد اندلاع حربين اهليتين الاولى بين عامي 1959 و1972، والثانية بين 1983 و2005، بين الشمال الذي تقطنه غالبية اسلامية، وبين الجنوب الذي تقطنه اغلبية مسيحية وقبلية لها معتقداتها الخاصة، حيث دعم الغرب، الجنوبيين باسم الدين المسيحي، وايضا من اجل ضمان مصالح شركات الطاقة والمعادن. وقد انتهت الجولة الثانية من الحرب الاهلية في العام 2005 بما عرف باسم “اتفاقية نيفاشا” وجرى تنظيم استفتاء في العام 2011، افضى الى تأييد غالبية جنوبية كاسحة الاستقلال حيث تشكلت دولة جنوب السودان.

وقد خسرت الخرطوم نحو 70 % من عوائدها النفطية لصالح الدولة الوليدة التي تبلغ مساحتها 620 الف كيلومتر مربع. وكانت التقديرات تشير الى ان انتاج النفط في السودان بلغ في العام 1999، نحو 450 الف برميل يوميا، ومع استقلال الجنوب انخفض فورا الى 110 الاف برميل يوميا.

الكارثة التي ألمت بالسودانيين، ان هذا الاستقلال جاء بالتزامن مع تفاؤلهم بان “نعمة النفط” بدأت تدر خيراتها عليهم، بعدما حكمت الجغرافيا والدسائس الدولية، بان تؤول غالبية ابار النفط الى الدولة الوليدة في الجنوب. وفي بلد يقطنه نحو 40 مليون انسان، فان الموارد النفطية المتبقية بالكاد كانت تسمح بادارة خزينة الدولة في ذلك الوقت، وذلك ايضا في ظل العقوبات الاميركية التي لاحقت السودانيين وطبقت على نظام الرئيس عمر البشير، برغم انه كان خضع فعليا لارادة الغرب بقبوله بالتنازل عن “جنوب السودان” وبكل ما آل الى الدولة الجديدة من موارد.

وناهيك على تكاليف جولتي الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب، فقد سبق للخرطوم ان قالت ان العقوبات الاميركية التي بدأت تفرض عليها منذ العام 1997، تسببت بخسائر لاقتصادها قدرت باكثر من 50 مليار دولار. وكانت العقوبات تارة تكون مرتبطة بتهم دعم الارهاب، وتارة بما يتعلق بالصراع مع الجنوبيين، وتارة اخرى تتعلق بالحرب في اقليم دارفور. وساهمت كل هذه العقوبات، في منع، الاستثمارات الخارجية في القطاعات الاقتصادية المختلفة في السودان، وافقرت البلاد تدريجيا -الى جانب عوامل سوء الادارة والفساد- وحالت بالتالي دون تحول السودان الى “سلة الغذاء للعرب”.

وبكل الاحوال، فان المشهد الحالي في السودان له دلالاته الاكثر خطورة، اذ ان المراقبين يعتبرون انه قد يكون بمثابة محاولة لاجهاض الاتفاق الذي تم التوصل اليه في كانون الاول/ديسمبر 2022 من اجل التمهيد لخروج العسكر من الحكم، وتسليم السلطة الى حكومة مدنية لمدة عامين، تجري في نهايتها انتخابات، تعيد الديمقراطية الى النظام السياسي في الخرطوم، بعد الانقلاب على الرئيس البشير في العام 2019.

وبينما يقول البرهان انه يريد ان تكون التسوية شمولية وتضم كافة الاطراف والقوى السودانية، فان حميدتي يتهمه بانه يريد ادخال الاسلاميين الى النظام الجديد، ويقول احيانا ان البرهان يسمح بعودة رجالات من الحقبة السابقة الى السلطة.

لكن الكثير من الوقائع تقول ايضا ان الصراع بين الرجلين، ابعد من مقررات  اتفاق تسليم السلطة الى المدنيين، ويتعلق بحجم كل من الرجلين، ودورهما في المرحلة السياسية الجديدة، وحجم نفوذ كل منهما، الى جانب علاقاتهما الخارجية.  

وبحسب الكثير من التقارير، فان السعودية والامارات توفران دعما قويا لقوات “الدعم السريع” التي يقودها حميدتي والتي يعتقد انها تضم نحو 100 الف مقاتل، مسلحين جيدا. ويعرف عن حميدتي انه بالاساس ليس عسكريا نظاميا، وانما جرى تعيينه من قبل البشير برتبة عسكرية، في محاولة منه لكسبه الى جانبه خشية وقوع انقلاب عسكري عليه، مراهنا على ولائه له، وخبرته خلال العقدين الماضيين، في قيادة وتأسيس ما كان يسمى ب “ميليشيات الجنجويد” التي شاركت بفعالية في قمع التمرد في اقليم دارفور، وتمت مكافأته على دوره هذا بمنحه حقوق السيطرة على بعض مناجم الذهب السوداني، ولا يزال.

لكن حميدتي انحاز الى الانقلابيين ضد البشير، واصبح الرجل القوي في مرحلة ما بعد العام 2019، بل انه كان في منافسة مع البرهان الذي يعتبر الحاكم العسكري للسوداني حاليا، ويقود الجيش السوداني النظامي.

وتدور تصورات ايضا بان البرهان يحظى بمساندة واضحة من جانب تركيا وقطر، ولذلك فان هناك اتهامات ضده بانه اقرب الى التيار الاسلامي و”الاخوان” تحديدا، لكنها ليست مثبة ضده، الا ان اصراره على ان تشمل التسوية السياسية التي رعتها واشنطن والرياض ولندن وابوظبي، جميع الاطراف السوداني، بما في ذلك الاسلاميين الذين دعموا سابقا البشير، الرئيس المخلوع، تعزز الشهبات حوله.

وكان موقع “اكسيوس” الاميركي تناول في تقرير له تفاصيل الساعات الاخيرة التي سبقت “لحظة الانهيار” التي قادت الى اندلاع الاشتباكات بين البرهان وحميدتي في 15 نيسان 2023، موضحا انه قبل ذلك بايام، حيث قال مسؤول امريكي ومصادر سودانية ان “الخلاف تركز على الشكل الذي سيبدو عليه التسلسل القيادي العسكري في السودان، بعد تشكيل الحكومة المدنية”، وانه “في حين اراد البرهان أن يكون الشخصية العسكرية العليا والوحيدة التي تقدم تقاريرها مباشرة الى الحكومة المدنية، طالب حميدتي بأن تكون له قناته المباشرة الخاصة مع القادة المدنيين من دون ان يضطر الى المرور عبر قائد الجيش”.

وبحسب التقرير الاميركي نفسه، فان الرجلين كانا متوجسين من الخطوات العسكرية لكل منهما، حيث ارسل البرهان تعزيزات عسكرية الى الخرطوم، بينما قام حميدتي بارسال تعزيزات الى قاعدة مروي الجوية شمال العاصمة، وهو ما اعتبره البرهان دليلا على الاستفزازت من جانب قوات “الدعم السريع”، قبل يومين تماما من انفجار الاشتباكات. ونقل التقرير عن مصدر سوداني يعرف الرجلين قوله “انهما تجاوزا نقطة اللاعودة”.

لكن ميادين الصراع تمتد الى ما هو ابعد من البرهان وحميدتي. الولايات المتحدة، متوجسة منذ حتى عهد البشير المخلوع، من محاولات التوغل الصيني في السودان، حيث سعت بكين الى ابرام اتفاقات نفطية ومشاريع عديدة قدرت بمليارات الدولارات ودخلت شركة الوطنية الصينية للنفط، السوق السودانية في العام 1995، وجعلت من السودان يتحول من دولة مستوردة للنفط، الى دولة مصدرة للمرة الاولى. وكان ذلك قبل انفصال الجنوب بنحو 6 سنوات فقط.

اما بالنسبة الى السعودية والامارات، فقد اشارت تقارير الى ان البرهان وحميدتي هما من اتخذ قرار الخرطوم بالانخراط في حرب التحالف السعودي في اليمن، حيث يعتقد ان السودان أرسل الاف الجنود للمشاركة في المعارك ضد الحوثيين المدعومين من ايران.

وفي الوقت نفسه، يتردد، اقله وفق اتهامات اميركية، ان حميدتي سمح للروس، وتحديدا من خلال “مجموعة فاغنر” القتالية، الموالية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالاستفادة من مناجم الذهب السودانية. وتتوجس واشنطن بالتأكيد من مثل هذا التعاون السري، مثلما تعرب عن مخاوفها الاكبر من التقارير التي تفيد بان روسيا، تفاهمت مع القيادة العسكرية السودانية، على اقامة قاعدة عسكرية كبيرة للقوات الروسية مطلة على البحر الاحمر، وتحديدا في بورتسودان.

وتعززت هذه المخاوف الاميركية مع الزيارة التي قام بها حميدتي الى موسكو في اواخر شهر شباط/فبراير 2023، واستمرت عدة ايام، في ظل الانباء التي تشير الى تعاون عسكري وتسليحي قوي يجري بين “مجموعة فاغنر” وبين قوات “الدعم السريع” التي يقودها حميدتي، بما في ذلك في المجال الصاروخي. وتستفيد “فاغنر” في هذا الاطار، من تمركزها في مناطق الشرق الليبي حيث يسيطر الجنرال خليفة حفتر، المدعوم بدوره من السعودية والامارات وروسيا، بالاضافة الى مصر.

يبقى من المهم الان، مراقبة ما اذا البرهان او حميدتي، سيتمكن من التخلص من غريمه العسكري في ظل نيران الحرب المشتعلة الان، او ما اذا كانت واشنطن، المتقلص دورها اقليميا، ستنجح هذه المرة برعاية مفاوضات “وجها لوجه” في الرياض، بين الخصمين السودانيين.

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".