نشرت مجموعة باحثين في “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة “تل أبيب”، تحليلا التقدير الاستراتيجي الصادر لسنة 2023، والذي يستعرض التهديد العسكري التقليدي القائم في الجبهة الشمالية الذي يضم لبنان وسوريا، والتي تعتبر جبهة مرتبط بالعمق مع ايران، التي يصفها الباحثون بقائدة المحور ولها الدور المركز الفكري والعملياتي.
يشير التحليل، أنه في حالة الطوارئ، تستند المعركة إلى مقاتلين نظاميين وقوات احتياط لبنانية، لديها قدرات عسكرية متنوعة (إطلاق نار، قوات خاصة، مناورة، صواريخ ضد الطائرات، صواريخ ومسيّرات)، إلى جانب قوات في سوريا لإمداد الجبهة اللبنانية بالأسلحة والاستخبارات، بهدف تشتيت التركيز الإسرائيلي. وبالموازاة، تدير إسرائيل معركة عسكرية على الجبهتين، وواعية بالتأثير المتبادل لنشاطها في لبنان وسوريا. وعلى عكس ذلك، لا يوجد في المجال المدني أي تفاعل جدي أو مؤسسات مشتركة بين الجبهتين بشكل يحتاج إلى تحليل شامل. هذا بالإضافة إلى أن التطورات التي حدثت في سوريا ولبنان خلال الأعوام الأخيرة تعكس وجود حالة حكم ذاتي من طرف النظام اللبناني، وضمنه حزب الله، ومن طرف النظام السوري، تعكس منطقاً قومياً أكثر مما تعكس حالة شاملة بكل ما يخص العلاقة مع إيران.
ويشير البحث إلى استراتيجية “اسرائيل” اتجاه لبنان، التي ترتكز على التعامل مع التهديد الأمني من طرف حزب الله، وذلك بسبب مكانة التنظيم ودوره المركزي. والهدف الأهم بالنسبة إلى “إسرائيل” في العام الأخير كان حفظ الهدوء والأمن على الحدود اللبنانية، وتحسين التعامل مع حزب الله. هذه الاستراتيجيا تضمنت جهودا لمنع تعاظم قوة التنظيم، من خلال التشويش على نقل الأسلحة إلى لبنان وتقليص وجوده على الحدود مع سوريا. وفي الوقت نفسه، الامتناع عن خطوات يمكنها تسريع التصعيد وترميم دائم لحالة الردع في مقابله.
وتعتبر الدراسة أنه على الرغم من جهود “إسرائيل” في إطار المعركة بين الحروب، فإن حزب الله لا يزال يعاظم قوته العسكرية بمساعدة إيران، وإن لم يكن بالوتيرة نفسها التي أرادها. لقد نجح في تعزيز قدراته في مجال إطلاق النار، وطوّر خطة لتعزيز دقة الصواريخ، ووسّع قدراته في مجال المسيّرات والدفاع الجوي. وعلى الرغم من ذلك، فإن التنظيم يبدو أنه يعمل بشكل محسوب ومكبوح في مقابل “إسرائيل”، على الرغم من أنه ذهب إلى أبعد مدى بالتهديد، كما جرى مثلاً عشية توقيع اتفاق الحدود المائية، حينها، كان الهدف حفظ توازن الردع مع “إسرائيل”. وفي الخلفية، لبنان على مسار انهيار سريع بدأ منذ سنة 2019، وأدى إلى إفلاس كامل، من دون أمل بالتغيير في الأفق.
ويضيف التحليل الاسرائيلي إلى وجود فجوة مضاعفة في الاستراتيجية، الأولى مقابل حزب الله، بعدم وجود رد على استمرار مسار تعاظُمه العسكري، إلى جانب رغبة في عدم الانجرار إلى حرب واسعة، والفجوة الثانية في مقابل لبنان، بعدم وجود استراتيجية محدثة ومرتبة بالنسبة إلى الجارة الصغيرة من الشمال، وإجابة متفق عليها عن سؤال ما إذا كان ثمة مصلحة لدى “إسرائيل” في انهيارها.
وضمن هذا الإطار يوصى بالاستمرار في السياسة الحالية، في مقابل حزب الله، وحفظ ميزان الردع وتحسينه من خلال توسيع النشاط العسكري ضد التنظيم، والدفع قدماً بخطوة تكسر الوضع القائم (لدرجة ضربة استباقية)، حتى لو كان الثمن الانجرار إلى حرب.
أما في الجانب اللبناني، فبعدم التدخل في الشأن الداخلي اللبناني، ودعم الجهود في الساحة الدولية لتسريع وتوسيع الخطوات الهادفة إلى الاستقرار الداخلي اللبناني، واستغلال اتفاق الغاز لتحسين العلاقات بين الدولتين.
ويقدم البحث خطوات لمواجهة حزب الله في عدة مجالات، من خلال متابعة قدرته العسكرية ومنع تعاظمها، وتعزيز الجهود ضد التنظيم على الساحتين الدولية والإقليمية، وفي المجال الاقتصادي بزيادة العقوبات ضده والإضرار بمصادر الدخل الخارجية له، والردّ على توسيع نشاطه والضرر الذي يُلحقه بالدافعية القتالية داخل الجيش، وبالمجتمع الاسرائيلي.
في مقابل لبنان، يشير البحث إلى ضرورة اتباع سياسة تجنيد أصدقاء “إسرائيل” في الإقليم (دول الخليج، وبصورة خاصة السعودية)، وفي الساحة الدولية (بالأخص الولايات المتحدة وفرنسا) لتعزيز الجهود وزيادة المساعدات الاقتصادية ودعم النظام السياسي اللبناني، بهدف استقراره، وذلك بموازاة تقليص مكانة وتأثير حزب الله وتقوية المعارضين له. وهذا بشرط وجود منظومة تضمن عدم وصول هذه المساعدات إلى حزب الله. ويقترح، التمسك بتطبيق اتفاق الحدود المائية مع لبنان، بهدف استنفاد الإمكانات الموجودة فيه، وضمنه موافقة على إشراك لبنان في منتدى الغاز الإقليمي، بالإضافة إلى تبنّي سياسة ثابتة ومعلنة بشأن استعدادها لمساعدة لبنان بصورة مباشرة، حتى لو كان المتوقع هو رفض المساعدة في هذه المرحلة.
أما من ناحية سوريا، فاعتبر البحث أنها تشكل قاعدة جغرافية مركزية لدى المحور بقيادة إيران، فإن الهدف الأهم المعرف في الاستراتيجيا الإسرائيلية هو التشويش على التمركز الإيراني وتعاظُم قوة حزب الله فيها، من خلال منع نقل الأسلحة والتشويش على منظومة تعزيز القوة للمحور والضرر بالبنى العسكرية التابعة له.
ويعتبر التحليل أن الرئيس السوري بشار الأسد اتخذ خلال سنة 2022 عدة خطوات، الهدف منها إعادة صوغ الوضع واستقرار المؤسسات السياسية، وأيضاً بناء الجيش من جديد. إلا إن هذه المسارات تصطدم بالعوائق التي تضعها أمامها الأزمات الاقتصادية والإنسانية المتصاعدة.
ويصف الباحثون في المعهد أن أغلبية التركيز الروسي موجه إلى الحرب في أوكرانيا بشكل يؤثر في تأثيره في سوريا، فموسكو أرغمت على تقليل قواتها القتالية في سوريا لمصلحة القتال في أوكرانيا، حتى أنها أخرجت إحدى منظومات الدفاع الجوي S-300 من الأراضي السورية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه ليست إشارة إلى تغيير استراتيجي في الوجود الروسي، فهي لا تزال تلعب دوراً مركزياً في ترميم الجيش السوري، ويشير البحث، أنه بسبب الحرب الأوكرانية، ارتفعت الحساسية الروسية إزاء العمليات الإسرائيلية في سوريا، إلا إن حرية العمل الإسرائيلية في سوريا لا تزال محفوظة نوعاً ما في هذه المرحلة على الأقل.
وأشار البحث إلى أن تعزيز التعاون بين إيران وروسيا، والذي انعكس بالمساعدات الإيرانية لموسكو في الحرب، يعكس اتجاهات سلبية بالنسبة إلى “إسرائيل”. من الممكن أن تطلب إيران من روسيا في المقابل أموراً تتعلق بحُرية العمل الإسرائيلي في سوريا، ومن الممكن أيضاً أن توافق موسكو على حماية القواعد الإيرانية من الهجمات الإسرائيلية.
واعتبر البحث أن المعركة التي تديرها إسرائيل خلال الأعوام الماضية في سوريا باتجاه ايران حققت بعض الإنجازات وشوّشت، إلى حد ما، على مشروعها، إلا إن التمركز الإيراني، وكذلك نقل الأسلحة إلى سوريا ولبنان، ما زالا مستمرّين، وتتغير وتيرتهما بحسب الظروف. وأوضحت أن الضربات المنسوبة إلى إسرائيل في إيران تدفع هذه الأخيرة إلى تنويع طرق عملها ومسارات التهريب، في الوقت الذي يسعى نظام الأسد لفرض حدود على عملها في البلاد.
وتعتبر الدراسة أنه رغم الانجازات في المعاركة إلا أن “إسرائيل” لا تجيب على التحديات الكبيرة مثل ايران وحزب الله والتمركز في سوريا وخصوصا في شرقي البلاد، فهو إن أبعد التهديد عن “إسرائيل”، لكنه لا يحبطه، بل يسمح لطهران، من خلال أدوات عسكرية وأخرى مدنية، بإيجاد تأثير بعيد المدى. وعلى الرغم من الضربات الاسرائيلية أدت إلى خفض كمية السلاح الاستراتيجي، فإن مشروع زيادة دقة الصواريخ مستمر باضطراد في سوريا. يضاف إلى هذا أن التطورات في الساحة الدولية والإقليمية يمكنها أن تفرض قيوداً على المعركة بين الحروب، وخاصة التقارب الروسي الإيراني، وشرعية ضرب جهود إعادة بناء الجيش، وسؤال التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة في أعقاب سلسلة الضربات الإيرانية لقواعد أميركية كردٍّ على المعركة بين الحروب. ويجب أيضاً فحص الثمن الذي تكلفنا إياه المعركة في الموارد، ويمكنه أن يكون على حساب التجهز للمدى البعيد، وضمنه التجهز للحرب.
يختم البحث بتقديم مجموعة من البدائل، أولها، أن الوضع الحالي في سوريا كدولة مقسمة ومفككة يخدم المصلحة الإسرائيلية إلى حد ما، مقابل “سورية الكاملة”. هذا النموذج يشكل سداً أمام التوسع الإيراني في سوريا. التحديات الداخلية أيضاً تضع عوائق أمام القدرة على ترميم الجيش. والثاني، التحدي الممزوج، العسكري والمدني، الذي تضعه إيران في سوريا يطالب إسرائيل بصوغ رد وتوسيع سلة الأدوات العسكرية لعوالم مدنية. وثالثا، في المرحلة الحالية في الشرق الأوسط، حيث “الجميع يتحدث مع الجميع”، لا يجب على إسرائيل أن تبقى خارجاً. سيكون جيداً إذا استغلت إسرائيل مكانتها وعلاقاتها مع القوى العظمى، ومع دول الخليج وغيرها، بهدف التأثير الإيجابي الذي سينعكس في إلحاق الضرر بالتأثير الإيراني في سوريا.
كما تؤكد الدراسة على زيادة التنسيق والحفاظ على وجود الولايات المتحدة في شرق سوريا وقاعدة “التنف” كسدّ أمام التمركز الإيراني، ودعم الهجوم على “داعش” بقيادة الولايات المتحدة، والحوار الأميركي التركي لإيجاد حل على الحدود التركية السورية، ومأسسة التعاون مع الأكراد. وحفظ قنوات منع الاحتكاك مع روسيا، من أجل الحفاظ على حرية العمل الإسرائيلي ومنع الصدام بين الدولتين. إضافة لتعزيز التعاون مع الأردن على أساس التحديات المشتركة التي يفرضها الوجود الإيراني، وتجنيد تركيا ودول الخليج لدفع إيران خارجاً وتقليل سيطرتها.