فرض الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حزمة عقوباته الجديدة على إيران في يوم ذي دلالة كبيرة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
ففي الوقت الذي تضع فيه واشنطن اللمسات الأخيرة على الحزمة ارتفعت أصوات المحتفلين في طهران بالذكرى التاسعة والثلاثين لإقتحام السفارة الأمريكية عام ١٩٧٩، الحدث الذي حسم التحول في العلاقة بين البلدين نحو الأسوأ بعد أشهر قليلة على خلع الثورة الإيرانية لشاه إيران السابق، محمد رضا بهلوي، أحد أقرب أصدقاء الغرب في المنطقة.
وكان الصراع، في زمن إحتلال السفارة، يحمل عنوانا وجوديا بالنسبة للإيرانيين، وإحتوائيا لأمريكا. إذ كانت الجمهورية الإسلامية الفتية تبحث عن مكان لها تحت الشمس، بينما تتحاشى مصيرا مشابها لذاك الذي إنتهى إليه رئيس الوزراء الإيراني المخلوع، محمد مصدق، في صيف العام ١٩٥٣ عندما أطيح في إنقلاب مدعوم من واشنطن ولندن في أعقاب أزمة تأميم النفط التي امتدت منذ عام ١٩٥١وحتى تاريخ الإنقلاب الشهير الذي وضعت خطته النهائية في فندق سان جورج الشهير في العاصمة اللبنانية بيروت.
وكان طيفا مصدق المخلوع والشاه العائد إلى الحكم يلوحان لقادة طهران الجدد، ولا سيما بعدما إستضافت الولايات المتحدة الشاه المخلوع في إحدى مستشفياتها في أواخر تشرين الأول/ أُكتوبر عام ١٩٧٩ لعلاجه من السرطان، الأمر الذي دفعهم للمطالبة بتسليمه لهم لمحاكمته، ومن ثم هاجم طلاب “ثوريون” السفارة الأمريكية في طهران، الواقعة فيما كان يعرف حينها بشارع تخت جمشيد، والذي أصبح اليوم يسمى بشارع آية الله طالقاني وهو أحد رموز الثورة الإيرانية.
ولم تبرح “متلازمة مصدق” قلب العلاقات الأمريكية الإيرانية المتوترة منذ أربعة عقود وحتى الآن، سواء في ذهن صناع القرار في إيران، أو حتى في مبدأ العقوبات المستخدم أمريكيا للضغط على طهران.
فالعقوبات، وكانت بريطانية في ذلك الوقت، على حكومة مصدق بعد تأميمه النفط أدت إلى نوع من الضغط الشعبي وحالة تململ في صفوف التجار وكسبة البازار، هو عينه ما يرمي باتجاهه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في مبدأ إعادة فرض العقوبات ومحاولة “تصفير” مبيعات النفط الإيرانية وبالتالي ضغط الاقتصاد والتسبب بالمزيد من الأزمات المالية ورفع منسوب البطالة، لصناعة حالة ضغط داخلية على الإدارة الإيرانية، وبدل “تغيير السلوك” الذي تتحدث عنه الإدارة الأمريكية يمكن بذلك “تغيير النظام” وبالتالي ضرب عصفورين بحجر واحد.
تعوّل الإدارة الأمريكية على سوط العقوبات القوي الذي تهدد به كل من يتعامل مع طهران، وفي المقابل تراهن الأخيرة على إخفاق ترامب في إقناع العالم بصواب وجهة نظره وتمرّد بقية العالم على إجراءاته.
وبين السوط والتمرّد مسافة كالتي بين الحد الأدنى والحد الأقصى، لذا يبدو تعامل بقية العالم أكثر ملائمة مع تعبير عدم الإجماع الرسمي على الإتجاه الأمريكي، مع رضوخ الشركات الخاصة الكبرى وإتخاذها قرار الانسحاب من الإستثمار في إيران، كحال توتال الفرنسية وايني الإيطالية في قطاع النفط، وبيجو الفرنسية ودايملر الألمانية في قطاع السيارات، فضلا عن مؤسسات أخرى في قطاعات حيوية مختلفة.
مع ذلك لا يبدو أن “تصفير” النفط أمر ممكن مع إستمرار المستورد الأول للذهب الإيراني الأسود، الصين، بالشراء، كذلك الأمر بالنسبة للهند وتركيا، بينما تنتظر عند القارعة كل من كوريا واليابان صدور الإعفاءات الرسمية من واشنطن للمعاودة.
ويقول المتخصص في الاقتصاد الإيراني المقيم في لندن، إسفنديار باتمانغليدج، لبي بي سي إنه لا يتوقع أن تتقلص صادرات إيران النفطية إلى الصفر، مضيفا أن الاقتصاد الإيراني بدا أقوى مما ظن البعض ” ويصب ذلك في مصلحة الحكومة الإيرانية، ولا سيما أن أسعار النفط ترتفع، الأمر الذي يحد من الخسائر”.
وينقل باتمانغليدج عن صندوق النقد الدولية توقعه أن يتراجع النمو في إيران بنسبة ٣.٦ عام ٢٠١٩ على أن يستعيد عافيته العام اللاحق، “بالتالي إذا نجحت الحكومة في لعب أوراقها فذلك سينعكس إيجابا على الوضع الاقتصادي.”
لكن باتمناغليدج، المولود لعائلة إيرانية غادرت إيران مع الثورة، يشير إلى أن إحدى أخطر التحديات التي ستواجهها إيران هي إستفحال سوء الإدارة.
بالعودة إلى مشتري النفط الإيراني، لا بد من الإشارة إلى أن الصين لم تشتر كل الكمية التي كانت تشتريها سابقا من إيران هذا الشهر، والسبب يعود إلى تمنّع بنك كونلون الصيني عن التعامل مع الإيرانيين إلتزاما بالعقوبات.
كما أن شركات صينية رئيسية تبدو كمن ينتظر الحصول على صفقات أفضل مع فتح الباب في طهران أمام الشركات الإيرانية الخاصة لبيع النفط للخارج بأسعار تشجيعية.
في هذا الإطار يقول المحلل السياسي الصيني ليو تشانغ لبي بي سي إن القول أن بلاده “ستملأ فجوة الصادرات فهذا ليس واقعيا”، مؤكدا أن الصين “لا تريد الحفاظ على الاتفاق النووي فحسب بل أيضا ان تتحمل الولايات المتحدة مسؤوليتها كدولة كبرى”.
ويضيف تشانغ “موقف الصين واضح، نحن نحافظ على علاقتنا الاقتصادية مع إيران بحسب القانون، وواردات الصين من النفط الإيراني مرتبط بحاجتها”.
وتختلف زاوية الرؤية في طهران بعض الشيء عن تلك التي في بكين، يشرح الأستاذ في جامعة طهران محمد مرندي لبي بي سي وجهة نظر بلاده، قائلا “اعتقد أن دور الصين محوري بالنسبة لإيران للتهرب من العقوبات، العملة الصينية قوية والصين تريد مضاعفة إستخدام اليوان”، مضيفا أن تصدير النفط الإيراني إلى الصين يساعد الأخيرة على توسيع دورها.
وعلى الرغم من إعلان الهند عدم إلتزامها بالعقوبات الا أنها ما زالت تنتظر شمولها بالإعفاءات الأمريكية، وقد قامت بالتوازي مع لك بتأسيس خط مالي خاص للتعامل مع إيران يسمح لها بشراء حاجتها بإستخدام العملة المحلية “الروبيه” التي ستودعها في مصرف هندي ليست له إرتباطات دولية، وبعد ذلك تستخدم طهران هذه الأموال لشراء ما تحتاجه من نيودلهي.
وهكا تكون الهند قد أوفت حق العلاقة مع طهران دون أن تتحدى جوهر ما يطلبه الرئيس الأمريكي، وهو الجوهر عينه الذي تحاول أوروبا ملاقاته في منتصف الطريق مع الحفاظ على الاتفاق النووي والعلاقة مع إيران، ومنع وصول الدولار إلى يد طهران.
وتعمل أوروبا، كما أعلنت سابقا، على آلية خاصة للتعاطي الاقتصادي مع إيران تسمح للدول والمؤسسات بالإستيراد من هناك والتصدير دون أن تعرضها للعقوبات الأمريكية.
وحتى كتابة هذه الكلمات ما زالت الآلية تحت البحث على مستويات مختلفة، لتحديد مكانها وطريقة عملها فضلا عن قدرتها الحقيقية على حماية المهددين بالعقوبات منها.
وكشفت التعقيدات الأوروبية بشكل واضح عن مدى الإرتباط العضوي للإقتصاد الأوروبي بالولايات المتحدة وصعوبة أخذ مسار مغاير لمصالح واشنطن، وهو ما يحفز السياسيين الأوروبيين أكثر على محاولة الوصول إلى حل حقيقي.
وهذا ما ما عبّر عنه ديتر كيمف، رئيس إتحاد قطاع الصناعة في ألمانيا بالقول إن الولايات المتحدة من خلال إستعمال الاقتصاد لأهداف سياسية تعقد العلاقات الدولية والشراكة بينها وبين أوروبا.”
وسبق ذلك بيان واضح عن الإتحاد الأوروبي في ٣ تشرين الثاني/ نوفمبر قال فيه وزراء خارجية بريطانيا وألمانيا وفرنسا فضلا عن مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فديريكا موغريني، إنهم يأسفون “بشدة” للقرار الأمريكي بإعادة العقوبات.
وأضافوا “نحن مصممون على حماية الأطراف الاقتصادية الأوروبية التي لها تعاملات تجارية مشروعة مع إيران بما يتسق مع التشريعات الأوروبية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231”.
وأشار البيان إلى أن الإتحاد سيعلن عن آلية خاصة للتعاملات المالية مع إيران تحت إسم Special Purpose Vehicle.
وفي صباح الإثنين وبعد ساعات على إعلان بدء سريان الحزمة الجديدة من العقوبات، توجهت بي بي سي بالسؤال إلى المتحدث باسم الإتحاد الأوروبي مارغاريتيس شيناس عن موعد الإعلان عن الآلية، فكان الجواب أن لا شيء حتى الساعة.
ولكن بالتوازي أعلنت سويسرا أنها تقوم بالتواصل مع كل من الولايات المتحدة وإيران والإتحاد الأوروبي لوضع آلية خاصة للتبادلات المالية الإنسانية على حد وصفها، والتي تتضمن تصدير الطعام والأدوية إلى إيران.
وتترقب إيران الحلول التي سيقدمها الخارج لها للإلتفاف على العقوبات، وهي بدورها ستقوم، كما قال رئيسها حسن روحاني صباح يوم تفعيل العقوبات، بكل ما بإمكانها للإلتفاف عليها، لكنها في الوقت ذاته قد بدأت قبل فترة بتحضير الشارع للعاصفة التي ستخلفها الإجراءات الأميركية الجديدة، والتي لن تعيد الأوضاع إلى ما قبل ٢٠١٥، تاريخ إعلان الاتفاق النووي، حسب بل وستؤثر حتى على شكل الاقتصاد الذي من المتوقع أن يشهد إجراءات حماية أكبر، أو تطبيق ما يسميه الإيرانيون الإقتصاد المقاوم، والذي لم يخرج، حتى اللحظة، عن وقوعه ضمن سياسىة الشعارات أكثر منه ضمن السياسة الاقتصادية الإيرانية.
وثمة خشية كبيرة في إيران من أن العقوبات الأمريكية ستعيد إنتاج حالة هجينة تضع اقتصاد طهران مجددا خارج الدائرة الاقتصادية العالمية، وهو ما سيفتح الباب بشكل أكبر على سوء الإدارة، والتهريب، وصناعة أغنياء جدد.
وهو ما سبق أن مرت به إيران ولم تغادر آثاره بعد المجتمع الإيراني، الذي دخل في نسق يزداد فيه الأغنياء غنى والفقراء فقرا، بينما الطبقة الوسطى في حالة إنكماش مستمر.
علي هاشم في “بي بي سي”
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-46100543