يمر السودان بمرحلة استثنائية في خطورتها، اذ لا تلوح بوادر تسوية تبعث على التفاؤل بنهاية الازمة، مع استمرار الغليان السياسي والاجتماعي منذ اسابيع، كانه قدر السودانيين ان يحاصرهم التشرذم والمعاناة. وصار هناك قتلى وجرحى في الشوارع، ما يؤجج المخاوف على مصير هذه الدولة العربية الكبيرة.
خليل حرب
++++++++++++++++++++++++++++++
لم تبدا ازمات السودان في الامس القريب، بل يمكن القول انها ما انفكت تلازمه منذ ما قبل الاستقلال عن بريطانيا في العام 1956. لكن الانفجار الاخير في الشارع السوداني ارتبط مباشرة بالخبز، وتراجع قيمة العملة الوطنية في جيوب السودانيين، وهو تدهور راحت تتفاقم معه معاناة السودانيين بشكل تدريجي منذ ما بعد انفصال “جنوب السودان” في العام 2011، وخسارة الشمال ثلاثة ارباع مردوده من المدخول النفطي، بعدما حكمت الجغرافيا والدسائس الدولية، بان تؤول غالبية ابار النفط الى الدولة الوليدة في الجنوب.
ولم يبق للسودان سوى بعض الفتات النفطي، لكن المشكلة ان حكومة الخرطوم لم تنجح لا في البحث عن بدائل اقتصادية من اجل البقاء لنحو اربعين مليون سوداني، ولا في حسن استغلال الثروات الهائلة التي تتمتع بها البلاد.
وبذلك، وجد الرئيس السوداني عمر البشير نفسه مجددا امام احد اخطر التحديات التي تواجه حكمه المستمر منذ ثلاثة عقود، منذ ان اطاح بانقلاب عسكري حكومة الصادق المهدي في العام 1989.
ومراقبة تطور الاحداث وتتابعها في التاريخ السوداني الحديث، ضرورة لفهم الوجهة التي قد تذهب اليها احدى اكبر البلدان العربية. فانقلاب البشير في ذلك العام، بدعم وايعاز من “الحليف والمنظر” الشيخ حسن الترابي، انتج ثنائية حاكمة، جمعت ما بين العسكر وجماعة “الاخوان المسلمين”، واستمرت قائمة الى ان اصطدم الرجلان، وحل البشير البرلمان في العام 1999. لكن هذا التحالف الاستثنائي بين حزب المؤتمر الوطني (البشير) وبين الجبهة القومية الاسلامية (الترابي)، اتاح للبشير فرصة كسب ولاءات جديدة من خارج المؤسسة العسكرية التي جاء منها الى السلطة، وبالتالي تعزيز قدرته على الامساك بخيوط اللعبة السياسية الداخلية.
ولعل من بين ابرز نتائج تحالف “العسكر-الاخوان”، ادلجة الصراع مع الجنوبيين الذين كانوا قد توصلوا الى تفاهمات مع الخرطوم في العام 1988 للالتزام بما عرف باسم “اتفاقية اديس ابابا” التي منحتهم الحكم الذاتي. لكن الحكم الجديد في الخرطوم رفع لواء “الجهاد” لفرض سلطة الدولة على المناطق الجنوبية.
المهم ان هذا الصدام، انتهى ولعوامل كثيرة، بما عرف ب “اتفاقية نيفاشا” في العام 2005 التي منحت الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، حق تقرير المصير، ادى لاحقا الى استفتاء شعبي في الجنوب قرر بغالبية تخطت ال90 في المئة، الانفصال الكامل عن الشمال في العام 2011.
وللمفارقة، فقد جاء انفصال الجنوب في اللحظة التي كان السودانيون يستعدون للتنعم بموارد النفط. وخسرت الخرطوم نحو 70 في المئة من عوائدها النفطية لصالح الدولة الوليدة التي تبلغ مساحتها 620 الف كيلومتر مربع. وكانت التقديرات تشير الى ان انتاج النفط في السودان بلغ في العام 1999، نحو 450 الف برميل يوميا، ومع استقلال الجنوب انخفض فورا الى 110 الاف برميل يوميا.
وكان السودان يتربع في المرتبة 20 عالميا في احتياطاته النفطية، وهو لا يزال يراهن على ان يصل الى قدرة انتاجية بنحو 33 الف برميل يوميا في العام 2030، اي نصف ما كان ينتجه قبل انفصال “دولة الجنوب”.
ولكي تكتمل “التراجيديا السودانية”، كانت المحكمة الجنائية الدولية تتهم البشير بارتكاب جرائم حرب في العام 2008 في اقليم دارفور اي بعد ثلاث اعوام على ابرام اتفاق التسوية في الجنوب.
ان بالامكان تصور ماذا فعله تراجع مخزون الدولة من اموال المردود النفطي في الاعوام الثمانية الاخيرة، اي منذ استقلال الجنوب العام 2011، وماذا فعلته العزلة السياسية والاقتصادية للخرطوم والبشير، باقتصاد السودانيين، خصوصا مع وجود عقوبات اميركية منذ العام 1997.
الدولة التي كادت ان تتحول الى منتج نفطي مهم في افريقيا، مضطرة الان على سبيل المثال، الى دعم الوقود ب80 مليون دولار شهريا. كل المؤشرات كانت تقول ان انفجارا شعبيا كبيرا سيحصل. اجراءات تقشف، غلاء اسعار، انعدام سيولة في البنوك، نقص في الوقود، والاهم تراجع قيمة الجنيه السوداني بحدة. وكان القرار بزيادة سعر الخبز ثلاثة اضعاف، كافيا لاشعال الاحتجاجات في عدد من المدن السودانية.
ازداد سعر رغيف الخبز من خمسين قرشا، ثم الى جنيه سوداني، ثم الى ما بين ثلاثة وخمسة جنيهات. فقد ارتفع سعر شوال الطحين من 550 جنيها (حوالى 30 دولار) الى 900 جنيه علما بان قيمة الدولار ارتفعت رسميا من 6.9 جنيه الى 18 جنيه والى 28 جنيه. وهناك نحو 10 ملايين مواطن في الخرطوم، يستهلكون اكثر من 30 مليون قطعة خبز في اليوم.
وهناك عامل اخر، اذ توفر الحكومة الدعم للقمح بنحو 500 مليون دولار كل ثلاثة أشهر، لكن هذا الدعم، تستفيد منه دول الجوار. فبينما يبلغ سعر شوال القمح المدعوم نحو 7.5 دولار داخل السودان، فانه اغلى من ذلك باضعاف في بعض دول الجوار، ما ادى الى ازدهار عمليات التهريب اليها.
وكانت الحكومة قادرة حتى وقت قريب قادرة على توفير الدعم للخبز بشكل ناجع الا ان الشح في النقد الاجنبي، يعرقل احيانا كثيرة عملية تغطية هذه السلعة الحيوية لحياة الناس الذين اصطفوا في طوابير طويلة لساعات امام الافران، للحصول على ما هو متاح لهم من خبز.
ليس مهما ما اذا كان الاحتجاج في شوارع مدن السودان، يسمى “ربيعا عربيا” ولو جاء متاخرا في السودان، كما قال محللون. المسالة الحساسة الان ان كل الغضب السابق المتراكم، بسبب هذا التدهور المعيشي تحديدا في لقمة الناس، ينصب على البشير الذي قد يناور مثلما يفعل منذ ثلاثين عاما من اجل البقاء، اذ يتسلح هذه المرة بورقة الجيش، وبورقة رئيس المخابرات صلاح قوش.
البشير قال في كلمة في مهرجان عسكري في عطبرة، “اذا جاء واحد لابس كاكي (عسكري) والله ما عندنا مانع لان الجيش لما يتحرك ما يتحرك من فراغ ولدعم العملاء بل يتحرك للوطن وحماية للوطن وحماية للمكتسبات الوطن”.
والقى 22 حزبا سودانيا غالبيتها مشاركة في الحكومة، تحت اسم “الجبهة الوطنية للتغيير”، مبادرة اثارت الكثير من التساؤلات والاحتمالات، اذ وقعوا على مذكرة رفعت الى البشير، تطالب بحل الحكومة والبرلمان، وتشكيل مجلس سيادي يقوم بتولي اعمال السيادة عبر تشكيل حكومة انتقالية لوقف الانهيار الاقتصادي ويشرف على تنظيم انتخابات وانهاء عزلة السودان خارجيا وانتشال العملة الوطنية.
واتهمت الجبهة، في مذكرتها الحكومة باهمال تطوير القطاعات الانتاجية، وعلى راسها الزراعة وانتهاج سياسات خاطئة ادت إلى تفشي البطالة وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية.
وفي المذكرة، حذرت الجبهة بالاضافة الى حزب الامة المعارض من ان “الاستمرار في رفض الانتقال إلى نظام سياسي جديد سيترتب عليه عواقب اجتماعية وسياسية وخيمة تؤدي بالامن الاجتماعي، وتزيد المواطنين معاناة وتورد البلاد مورد الهلاك”.
السودانيون تواقون الى معجزة تخرجهم من الحال الذي يحاصرهم منذ استقلالهم وبلادهم تتشظى وتحاصر وتفقر.
العقوبات الاميركية
تقول الخرطوم ان العقوبات الاميركية التي فرضت عليها منذ العام 1997 تسببت بخسائر لاقتصادها تعادل اكثر من 50 مليار دولار. وفي الاتي ابرز القرارات التي اتخذتها واشنطن ضد السودان :
في العام 1993، صنفت وزراة الخارجية الاميركية السودان ضمن لائحة الدول الراعية للارهاب.
وفي العام 1997، اصدر الرئيس الاميركي بيل كلينتون امرا تنفيذيا فرض بموجبه عقوبات تجارية ومالية على السودان في اطار اتهامه بدعم الارهاب.
وفي شهر اب 1998، قصفت طائرات اميركية مصنع الشفاء للادوية، بذريعة انه تابع لزعيم القاعدة اسامة بن لادن وينتج اسلحة كيميائية.
وفي العام 2002، اصدر الكونغرس الاميركي ما يسمى “قانون سلام السودان” الذي ربط رفع العقوبات بتحقيق تقدم في مفاوضات الخرطوم مع المتمردين الجنوبيين.
وفي العام 2006، وسع الرئيس الاميركي جورج بوش العقوبات لتشمل الحظر على الافراد التهمين بالتورط في حرب دارفور، والاستمرار بحجز اموال الحكومة السودانية ومنع معاملات الاميركيين مع الخرطوم في ما يتعلق بالنفط والبتروكيماويات.
وفي العام 2006 ايضا، اي بعد عام من اتفاق السلام مع الجنوب، اصدر الكونغرس ايضا “قانون سلام ومحاسبة دارفور”، ثم قانون المحاسبة ونزع الاستثمار في العام 2007 الذي فرض عقوبات على اشخاص تعتبرهم واشنطن مسؤولين عن الابادة الجماعية وجرائم الحرب في دارفور.
وكان على الخرطوم ان تنتظر حتى شباط العام 2015، لتتخذ ادارة باراك اوباما قرارا بتخفيف العقوبات على السودان. وبناء على ذلك، سمح بتصدير اجهزة اتصالات شخصية وبرمجيات تتيح للسودانيين الاتصال بالانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
ثم مددت ادارة اوباما في العام 2016 العقوبات لمدة عام، لكنها اعتبرت ان بالامكان رفعها في حال حققت الخرطوم تقدما في الملفات المتنازع عليها، وذلك مع انخراط البشير في حرب اليمن. وفي كانون الثاني 2017، اصدر اوباما قبل مغادرته البيت الابيض، اوامر برفع جزئي للعقوبات بسبب “التقدم الذي احرزه السودان” لكنه ابقى الخرطوم على لائحة الارهاب. وسمح هذا القرار بالقيام بالتعاملات المالية التي كانت محظورة، بما يتيح للاميركيين القيام بتعاملات مالية مع أفراد وهيئات سودانية، وبرفع حظر الأصول السودانية المجمدة.
وفي العام 2017، اضاف الرئيس دونالد ترامب السودان الى لائحة الدول المتقاعسة عن وقف الاتجار بالبشر.
الرجل القوي
يظهر ثم يبعد عن الساحة السياسية والامنية في السودان. صلاح عبدالله قوش، الذي تولى مجددا جهاز المخابرات الوطني السوداني في العام 2018، يؤدي ادوارا مهمة في حماية الرئيس عمر البشير، على الرغم من انه سبق ان اعتقل وسجن بتهمة محاولة الانقلاب على النظام.
مهندس تخرج من جامعة الخرطوم في العام 1982، وكان ناشطا طالبيا في صفوف جماعة الاخوان المسلمين، وانضم لاحقا الى جهاز الامن الداخلي في العام 1989، مع اعتلاء البشير السلطة بالتحالف مع المنظر الاسلامي الشيخ الراحل حسن الترابي.
يروى عنه انه ساهم في اعتقال شقيقه وسجنه لمدة عام، بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي. كما يعتقد انه اتهم بالتورط مع ناشطين اسلاميين من مصر حاولوا اغتيال الرئيس المصري الاسبق حسني مبارك في اديس ابابا العام 1995، ما ادى الى ابعاده من جهاز المخابرات في العام 1996.
لكنه عين لاحقا مديرا لمصنع اليرموك للصناعات العسكرية، وساهم في انشاء صناعات عسكرية، وعاد الى جهاز الامن في العام 2002. اما في حرب دارفور التي اعادته الى ادارة جهاز الامن والمخابرات، فقد ساهم فيها في تشكيل “ميليشيا الجنجويد” التي استخدمت في مواجهة المتمردين.
يقول موقع “تي ار تي” انه قوش ارتبك بعلاقات قوية مع الامخابرات الاميركية وساهم في تخفيف الضغوط الدولية والاميركية على الخرطوم من خلال تعاونه مع واشنطن في مكافحة الارهاب وفي تسليم الاميركيين ملفات حول “الجهاديين العرب” الذين استقروا قي السودان خلال التسعينات، بما في ذلك اسامة بن لادن.
اعتقل في العام 2002 بتهمة التامر في مخطط للاطاحة بالبشير، لكنه خرج بعدها بعام بعفو رئاسي وعاد في 2018 الى جهاز الامن.
عمر البشير
ولد في قرية حوش بانقا بريفي شندي في العام 1944، وينتمي لقبيلة البديرية الدهمشية ومتزوج من امراتين. تخرج من الكلية الحربية في العام 1967 ونال ماجيستير العلوم العسكرية من ماليزيا، وعمل فترة من حياته في الامارات، وعين قائدا للواء الثامن مشاة.
وقاد الانقلاب حكومة الصادق المهدي في العام 1989 بدعم من حسن الترابي. وتولى زعامة مجلس قيادة الانقلاب ثم جمع منصبي الرئيس ورئيس الوزراء حتى اذار العام 2017 حيث فصل المنصبين.
وفي العام 2010، اعيد انتخابه رئيسا في اول انتخابات تعددية منذ استلامه السلطة. وتجري محاولات لتعديل الدستور بما يتيح له الترشح مجددا للرئاسة في العام 2020. في ايلول 2018، اجرى تعديلا وزاريا من خلال حل حكومة بكري صالح وعين معتز موسى رئيسا للوزراء وقلص عدد الوزراء من 31 الى 21. وتعتبر فترة حكمه الاطول في تاريخ السودان الحديث.
http://www.general-security.gov.lb/uploads/magazines/65/18.pdf