فيروس كورونا الذي ضربنا لم يفرق بين المتدينين واللامتدينين، لكنه منحنا في المقابل، لحظة نادرة للانسان، للتآخي والتكافل، وليس مناسبة جديدة، للضلال والدجل.
كان لافتا كيف أربك الفيروس بعض الشرائح المتدينة التي احتارت ما بين التعامل مع الفيروس على انه تحد طبي، او ما بين الابتلاء والاختبار الايماني من السماء، سواء كان مسلما، مسيحيا، يهوديا، او هندوسيا…
مضحك ومبك كيف أن بعض المتدينين وجدوا صعوبة في الاعتراف بالخطر الجرثومي باعتباره حقيقة علمية لا جدال فيها، فتراوحت مواقف الكثيرين ما بين اللامبالاة والشماتة والمكابرة والتباطؤ في التحرك، قبل ان تتضح خطورة الوباء، وتفرض الحكومات ارادتها بالحجر ومنع التجمعات البشرية حتى الدينية منها.
ان من بين تجليات الاستغلال المثيرة للسخرية ما نقل عن تنظيم “داعش” الارهابي اعتباره ان الوباء “عذاب مؤلم من الله للامم الصليبية”. وسنقول ان هذا التنظيم الارهابي لا يمثل شيئا من الدين. الا ان متدينين آخرين من معتقدات مختلفة حول العالم، كادوا ان يلتقوا على فكرة واحدة مفادها ان الفيروس هو اختبار السماء، او ابتلاء منها، لتأكيد ان فيروس بهذه الضآلة فضح ضعف الانسان وهشاشته امام الرب.
للدين مكانته الكبيرة في غالبية المجتمعات، لكن من الواضح ان العديد من رجالاته حاولوا، ربما عن جهل وارتباك، او اصرار متعمد، تضليل النقطة المركزية في ما يجري في العالم منذ اكثر من خمسة شهور، بان ما يداهمنا هو وباء قابل للتفشي بدرجة شديدة الخطورة وباننا لا نملك، حتى الان، علاجا طبيا له، وان التركيز على المظاهر، أو المبررات الدينية، ليست خلاصا في هذه اللحظة تحديدا.
ان الفيروس بمعنى آخر، شكل مناسبة استثنائية، لحشد الاتباع والمؤمنين، مهما كان الثمن، بتغليب الجوانب الغيبية، على الحقائق العلمية، عوضا عن الانضمام الى قوافل المتطوعين والاطباء والممرضين في حملات التوعية والوقاية والمكافحة.
خذ مصر على سبيل المثال. فبحسب المعلن رسميا، تم اكتشاف أول حالة لمصاب بالفيروس في مصر في 14 فبراير/شباط 2020. انتظرنا حتى 15 مارس/اذار لتعلن مؤسسة الازهر جواز الغاء صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، من خلال بيان اشار الى ان الفتوى تأتي تماشياً مع أعظم مقاصد شريعة الإسلام حفظ النفوس وحمايتها ووقايتها من كل الأخطار والأضرار”.
وحتى حلول 20 مارس/اذار كان قرار وزير الاوقاف لا يزال قائما بالابقاء على المساجد مفتوحة لصلاة الجمعة مع اتخاذ اجراءات الوقاية اللازمة. تحتم على الحكومة في اليوم التالي اعلان اغلاق المساجد!
في ايران ايضا، كان الارتباك واضحا. فقد تم تأكيد الاصابة الاولى بفيروس كورونا في 19 فبراير/شباط في مدينة قم، لكن برزت اتهامات عديدة للسلطات الايرانية بتجاهل الخطر بالنظر الى موعد الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة بعد ذلك بيومين، ما ادى الى تفشي الوباء مع توجه ملايين الناخبين الى صناديق الاقتراع. في قم نفسها، سجلت واحدة من اعلى نسب الاصابات بين الايرانيين. ولا يقف الأمر هنا، روج احد المتدينين المعممين افكارا حول عدم نجاعة علوم الطب الحديث في معاجلة الامراض، مدعيا امتلاكه قدرات شفائية باسم “الطب الاسلامي”. حاول أيضا “الشيرازيون” تحدي قرار السلطات فرض الاغلاق على المواقع الدينية المقدسة، معتبرين ذلك تجديفا !
بعض دوائر الكاثوليكية اليمينية في الولايات المتحدة، عاملت الفيروس وأخطاره، بأفكار تضليلية. وعوضا عن المشاركة في الجهد الجماعي التضامني لمواجهته، راح هؤلاء المتدينون يصورونه على انه “اختبار الرب” ودليل على قرب “نهاية العالم” وظهور السيد المسيح!
وعند اليهود لم يكن الوضع أفضل حالا. ففي فلسطين المحتلة، تفشى وباء كورونا في أوساط اليهود المتدينين الذي يشكلون 12 في المئة فقط من سكان الكيان المحتل، لكن الاصابات بينهم بالفيروس شكلت 50 في المئة من نسبة الاصابات في عموم الكيان الاسرائيلي. استمع المتدينون الى تعاليم حاخامتهم الذين رفض العديد منهم الاعتراف بخطر الفيروس، وقاوموا محاولات منع تجمعاتهم.
لا بل ان احد ابرز رموزهم، وهو وزير الصحة الحاخام يعقوب ليتسمان اصيب نفسه بالفيروس بعدما كان سخر قبل ذلك بأيام من الفيروس معتبرا انه عقاب من الرب سيطال الشاذين جنسيا، ورافضا فكرة اغلاق دور العبادة اليهودية لان الصلاة فيها ستحي الأمل بمجيء “المسيح المخلص لانقاذ الإسرائيليين من الوباء”!
ولكي يكتمل مشهد مفارقات بعض المتدينين، احتشد جمع من اتباع منظمة “هندوماهسابها” في مدينة نيودلهي، لاحتساء بول البقر باقداح خزفية، ايمانا منهم بأنها تقيهم من كورونا!
ان الأمثلة كثيرة. وليس المجال هنا لاستعراضها كلها. لكن هذه الأخبار تلتقي في مكان ما عند نقطة مركزية مفادها ان التيارات التنويرية – أو الاصلاحية – داخل المجتمعات الايمانية ما تزال قاصرة في معاركها لاستكمال اخراج أتباعها الى النور من خلال التأكيد على أن العلم لا يتعارض مع معتقداتهم.
الأسوأ، ان الفيروس فضح للمرة الألف، جهلنا.
خليل حرب
اقرأ ايضا :