خليل حرب
ليس مشهدا عاديا ذلك الماثل أمامنا من شمال سوريا الى السواحل الليبية. اصطدام رئيس تركيا رجب طيب أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي يعني في ما يعنيه، أن كل محاولات كبح جماح التمدد التركي في المنطقة، لم تعد تنفع معها النوايا الحسنة ولا التفاهمات أو الاتفاقيات.
راهن بوتين، على محاولة ضبط إيقاع الحركة الإقليمية لأردوغان الذي على النقيض، لا يريد حركة مشروطة أو مقيدة، لا في الشمال العراقي، ولا في الشأن السوري، أو في المعركة الليبية التي يتحول فيها اردوغان تدريجيا إلى لاعب أساسي، على مستوى مجرياتها وحساسياتها الإقليمية في الشمال الإفريقي والمتوسطي.
الصورة شديدة الوضوح كما تتمثلها تصريحات أردوغان حول “حقوق” تركيا لممارسة نفوذها في كردستان العراق وإدلب السورية وطرابلس الليبية ولم تعد ملتبسة.
يقول أردوغان، دون مواربة، وبما يعكس نواياه وأهدافه ومصالحه: “لتركيا دور طبيعي وتاريخي، وعلى كل من يعنيهم الأمر، من عرب وعجم، أن يتعايشوا مع هذه الأطماع”.
إذا، لحظة قصف مقاتلات “سوخوي 24” الروسية لدبابات وعربات مدرعة دفع بها أردوغان إلى أتون معركة إدلب، تمثل انكسارا ظرفيا للموجة الأردوغانية، بينما لا تعني كذلك بالضرورة، نهايتها.
وفي مفارقة لافتة، كان أردوغان يستقبل في اليوم نفسه رئيس حكومة الوفاق في طرابلس، فايز السراج، في تأكيد ضمني على مضي سياساته التوسعية بالإقليم قدما، وذلك بعيد الزيارة التي قام بها اللواء الليبي خليفة حفتر إلى موسكو.
جرت مياه كثيرة في مياه العلاقات ما بين أنقرة وموسكو منذ تاريخ 24 نوفمبر العام 2015، وذلك عندما أسقطت تركيا مقاتلة السوخوي الروسية لتتحطم في محافظة اللاذقية السورية، فيما وصفه بوتين وقتها بأنها “طعنة بالظهر من جانب حليف الإرهابيين”، في مستهل التمركز الروسي العسكري في سوريا، وهي حادثة تبعتها سلسلة من الإجراءات الروسية العقابية، اقتصاديا وسياسيا بحق تركيا، قبل أن يعود الطرفان إلى تطبيع علاقتهما، وتحاول موسكو بعدها “عقلنة” الدور التركي في سوريا، وضبطه بمقايضات ميدانية وعسكرية، وكذا، من خلال اتفاقيات سوتشي التي سمحت لأنقرة بالتمركز في نقاط مراقبة عسكرية في محافظة إدلب.
لكن واقع الأمور يقول إن تركيا غرست نفوذا وسيطرة لا يستهان بهما في الشمال السوري خلال الأعوام الماضية، وولت تلك الأيام التي كان أردوغان ينزل ضيفا عزيزا في دمشق وحلب على الرئيس السوري بشار الأسد، ويقدم وعودا للسوريين تتصل بمستقبل مشرق لشعبي البلدين.
لن ينسى السوريون، كيف أن الليرة التركية صارت تُفرض باعتبارها عملة رسمية متداولة بشكل طبيعي في الشمال السوري، بالإضافة إلى قيام فصائل مسلحة ممولة ومدعومة من المخابرات والجيش التركيين، بفرض هيمنتها وسيطرتها على مدن وقرى سورية لسنوات، ناهيك عن دور ميلشيات مسلحة فككت مصانع حلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، ونقلتها بالكامل إلى داخل الأراضي التركية وباعتها بأبخس الأثمان.
لقد تبين للعديد من السوريين، أن وعود أردوغان في ذلك الزمان لم تكن سوى سم في العسل، وانكشفت أمور كثيرة، حيث وضع أردوغان مصالح الدولة “الإخوانية” العميقة التي أرساها من خلال حزبه العدالة والتنمية، وعززها بعد محاولة “انقلاب” يوليو 2016، فوق أي اعتبار.
يحتل أردوغان، الآن، أراض عربية عدة، من الشمالين العراقي والسوري، بينما يدعي تاريخية الرابط مع الموصل العراقية، وحلب وعفرين السوريتين، مرورا بمناطق سيطرة حكومة فايز السراج الليبية، ليحاول من هناك التحرش بمصر، وينقل مرتزقة من المسلحين السوريين لمقاتلة حفتر، كما أن له نفوذ واضح في الشمال اللبناني من خلال مجموعات طفت على سطح الأزمة اللبنانية الحالية، ويحاول إيجاد موطئ قدم له في القرن الإفريقي، ويذهب بعيدا إلى الشمال، نحو أوكرانيا لمناكفة الروس.
وعندما تستحضر فلسطين، نجده صاحب بلاغة وعاطفة جياشة، لكن علاقاته مع إسرائيل، اقتصاديا وتجاريا، في أفضل أحوالها بتاريخ الدولتين.
فما العمل أمام هذه المقامرات التي لم تعد تعرف حدودا؟
ذلك السؤال المركزي يفتح مجالا واسعا للحديث عن الفراغ الذي يحاول الرئيس التركي ملأ مساحاته، لتحقيق تواجد وتأثير يخدمان مصالحه الاستراتيجية وأهدافه السياسية والأيدولوجية. إذ ليس سرا أن غياب العمل العربي الفاعل، والمواقف العربية الموحدة، سمح بهذا التغول الأردوغاني في الساحات العربية المختلفة، إلا إن الاستدراك ربما لا يزال ممكنا.
وفي هذا السياق، أوضح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، أن: “المتابع للمشهد السوري وما يجري في إدلب من مواجهات خطيرة يدرك أبعاد غياب الدور العربي، صراع مصالح يطال البشر والأرض تخوضه الدول وكأن العالم العربي مشاع، أو فضاء لطموحها ولامتدادها الاستراتيجي.. عودة الدور العربي لمواجهة تحديات الأمن العربي أصبح أكثر من ضرورة”.
وقبل شهر، قال قرقاش أيضا أن “تهميش الدور العربي (في ليبيا)، كما هو الحال في سوريا، درس قاس لن يتكرر”.
وعليه، فإن ترجمة هذه المواقف تعني بالمصطلح السياسي “الأمن القومي العربي”، وهو حتى الآن ليس موحدا بمفاهيمه. وهنا تكمن الثغرة التي يتسلل منها “المشروع الأردوغاني” باسم “الميثاق الملي” الموقع في العام 1920، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والذي يؤكد رفض الأتراك خروج الولايات العربية من الحدود الجغرافية للعثمانيين، من الموصل في العراق إلى مصراتة في ليبيا.
إذا لم يتبلور مشروع عربي جامع، سياسيا وإعلاميا واقتصاديا، للتعامل مع الملفين السوري والليبي، فإن أردوغان الذي جرحت كبرياءه الضربة الجوية الروسية، وأحرجته سياسيا وأمنيا واقليميا، سيظل جاهزا بكامل عتاده وعدته العثمانية، ليقول: أنا خليفتكم الأعلى!.