الرئيسية » اراء ودراسات » الشعوب اللبنانية أمام عار الميراث الطائفي

الشعوب اللبنانية أمام عار الميراث الطائفي

من العلامات المشرقة – وهي مثار جدل أساسا- في الثورة اللبنانية، ارتفاع أصوات اللبنانيين ولو بشكل مبعثر، للمناداة بالغاء الفوارق المذهبية والطائفية فيما بينهم. كسرت هذه الأصوات، وهي كثيرة، حواجز تراكمت عشرات السنين في مياه السياسة اللبنانية الآسنة.

طربت آذان أبناء الطائفة السنية في الشمال وهو يسمعون هتافات التضامن معهم من شيعة في الجنوب وبيروت. وتفاءل مسلمو البلاد عموما وهم يسمعون صرخات وحدة الحال مع مسيحيي كسروان والمتن وجبيل، وخرجت مسيرات محبة وورود بين اكثر من منطقة حفرت في وجدان اللبنانيين وذاكرتهم بأنها من بؤر الحرب الاهلية خلال السنوات السوداء في السبعينات والثمانينات، كما جرى في مسيرة نساء أبناء “محور عين الرمانة – الشياح” في بيروت.

ان مشاهد التلاقي والمحبة هذه قالت اشياء كثيرة لأجيال تربت على الخوف من الآخر ومن أفكاره ورؤيته للبنان المختلف عنه. لم تفعل الطبقة السياسية التي أطبقت على الحكم في لبنان، منذ ما بعد الحرب الاهلية سوى ترسيخ ثقافة الريبة والتوجس بين اللبنانيين، وتعميق انغلاقهم على مجتمعاتهم الخاصة وبيئاتهم المتمايزة مناطقيا ومذهبيا وطائفيا.

لا بل أنها – هذه الطبقة السياسية – عززت الفوارق بين اللبنانيين في لقمة عيشهم، بعدما صارت الديانة، او الطائفة، أو المذهب، المعيار الأساس في غالب الأحوال، للتوظيف في مؤسسات ودوائر الدولة على قاعدة “ستة وستة مكرر” غير المعلنة رسميا وانما المطبقة علانية بذريعة الحفاظ على “التوازن الطائفي” في توظيف الدولة لمواطنيها!

ومع ذلك، فان صرخات الحناجر حبا بالوحدة الوطنية التي علت في شوارع لبنان، بدت لكثيرين كأنها تسقط حواجز بينهم، وان أشعة شمس الوطن الواحد للجميع قد أشرقت بنورها، وان “لبنان الجديد” يولد الان، في هذه اللحظة بالذات التي نزلت فيها الحشود في مختلف المناطق من أجل الثورة التي طال انتظارها لتعيد صياغة هذه البلاد من جذورها، مرة واحدة والى الأبد.

لكن ذلك لم يحصل .. أقله حتى الان!

ومن أجل فهم أكثر وضوحا لهذا المشهد، لا بد من الملاحظات التالية. أولا ان بعض الكلام المعسول كان بداعي متطلبات اللحظة ذاتها امام عدسات كاميرات الاعلام او الخطاب الثوري الترويجي، من دون ان يعني ذلك الانتقاض من الكثير ربما من هذه الصرخات التي كانت صادقة وعفوية. ثانيا، ان تعميم فكرة الطلاق الشامل مع التمايزات الدينية والطائفية الحاصل الآن، تتعارض تماما مع حقيقة انجراف كتل الناخبين (نسبة التصويت اكثر من 49% من مختلف الطوائف) للمشاركة في الانتخابات البرلمانية التي هي في أحد وجوهها الأبرز، ترسيخ للمحاصصة الدينية والطائفية، قبل نحو عام فقط من انفجار الثورة.

ولعل الملاحظة الثالثة والأهم والتي نريد التوقف عندها لاظهار التناقض ما بين التمنيات والواقع، وهي ان الحراك الثوري عموما، والمنادين الصادقين بنبذ الهوية الطائفية، سرعان ما اصطدموا بحبائل السلطة السياسية – المالية التي قبضت على اموالهم المودعة في البنوك، وأحالتهم فورا من ثوريين حالمين بسواسيتهم المواطنية خارج القيود الطائفية، الى متوحدين في عذاباتهم في طوابير مذلة امام البنوك والديون ويوميات ضيق العيش.

ففي مكان ما، يتقاسم الطرفان – ان صح التعبير – الشعب والسلطة مسؤولية مآلات الخيبة في احتمال نجاح اللبنانيين في كسر الارث الطائفي الذي حكم مصير هذه البلاد منذ ما قبل الاستقلال. لكن الأمانة تقتضي القول ان السلطة بأذرعها المختلفة (سياسيا واقتصاديا ودينيا)، بما في ذلك الاستعمار الفرنسي نفسه الذي وضع أسس التشرذم الطائفي، فشلت في الخروج من عباءة التاريخ المثقلة بتقسيم اللبنانيين، ولم تتجرأ، أو ربما بشكل أدق، لم ترغب في اخراج المواطنين من دهاليز الانقسام الطائفي برغم الحروب الاهلية المتسلسلة في اعوام 1840 ثم 1860 ثم 1975.

اعتاشت السلطة، وتعايشت، مع عناصر دستورية وميثاقية قيدت مواطنيها منذ عشرات السنين، واستخدمتها لاحكام قبضتها على مصائرهم، ولم يخرج قائد او زعيم قادر على كسر تلك القيود، أو يمتلك ما يكفي من الجرأة والرؤية، لفعل ذلك. وهذا برأينا كان الامتحان الحقيقي الذي سقط فيه لبنان للانتقال الناجح الى مرحلة “ما بعد حقبة الاستعمار”، فظل أسيرا لها. 

اتفاق الطائف

ان المواطنة السليمة كانت تفترض الخروج من تلك الحقبة، وتاليا تحطيم المفاهيم القائمة عليها حياة اللبنانيين. وليس سرا القول ان التناقضات تحكم حياة اللبناني بشكل فاجر.

تنص مقدمة الدستور اللبناني، على ان “إلغاء الطائفیة السیاسیة هدف وطني أساسي یقتضي العمل على تحقیقه وفق خطة مرحلیة”. اما المادة السابعة فيه فتؤكد ان “كل اللبنانیین سواء لدى القانون وهم یتمتعون بالسواء بالحقوق المدنیة والسیاسیة ویتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بینهم”، في حين تنص المادة ال12 على ان “لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا میزة لأحد على الآخر إلا من حیث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ینص علیها القانون”.

ولا حاجة للقول ان لا الغاء الطائفية السياسية تحققت، ولا كل اللبنانيين سواسية بالحقوق المدنية والسياسية، ولا هم سواسية في حقوق تولي الوظائف العامة. لا بل ان الدولة تعتمد سندا قانونيا يسمى “ستة ستة مكرر” يقتضي توزيع وظائف الدولة على الطوائف بنسب متساوية. فعلى سبيل المثال، اذا تقدم مرشحون لغشل وظيفة حكومية عبر ما يسمى مجلس الخدمة المدنية، وتصادف ان الفائزين في امتحان الخدمة يغلب عليهم المسلمون، لا يطبق التوظيف لان عدد المسيحيين الفائزين فرضا غير معادل لهم. او ان هذه الصيغة التوظيفية تعني ايضا ان بالامكان توظيف مسيحي ماروني غير كفوء فقط لتكون هناك مساواة مع مسيحي ارثوذكسي او مسلم سني. 

المثير لحيرة اللبنانيين والمنتفضين في الشارع، ان أسس المشكلة معروفة للسلطة وفق ما تقره في الدستور الذي ينص في مادته ال23 على انه “مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي یستحدث مجلس للشیوخ تتمثل فیه جمیع العائلات الروحیة وتنحصر صلاحیاته في القضایا المصیریة”.

وبطبيعة الحال، لم ينتخب مجلس النواب المشار اليه، ولم يتشكل مجلس الشيوخ ايضا حتى الان.

نذهب الى تلاعب فاضح آخر لم تقدم السلطة منذ الاستقلال حتى الان على تصحيحه، اذ ينص الدستور على انه “الى أن یضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القید الطائفي، توزع المقاعد النیابیة وفقاً للقواعد الآتیة:أ – بالتساوي بین المسیحیین والمسلمین، ب – نسبیاً بین طوائف كل من الفئتین، ج – نسبیاً بین المناطق.

وكما يعلم كثيرون فان من مفارقات التركيبة اللبنانية، وهي كثيرة، ان تقاسم المناصب العليا الثلاث في الدولة يجري وفق التالي: رئاسة الجمهورية لمسيحي ماروني، رئاسة الحكومة لمسلم سني، ورئاسة مجل النواب لمسلم شيعي. لكن قلة من الناس تعلم انه خلال فترة الانتداب الفرنسي، اي بين العامين 1926 حتى العام 1943، جاء رؤساء للجمهورية من خارج الطائفة المارونية.. مثلا الرئيس الأول في هذه الحقبة هو شارل دباس وهو مسيحي ارثوذكسي، وجاء أيضا أيوب ثابت كان مسيحيا بروتستانيا، فيما تولى بترو طراد المنصب وهو مسيحي ارثوذكسي. وفي السياق نفسه، تولى ارثوذكس وموارنة وشيعة وسنة رئاسة مجلس النواب.

فما الذي تغير؟  ما الذي حدد ملامح النفق الطائفي الذي اقتيدت اليه “الشعوب” اللبنانية لاحقا وظلت تستظل به خوفا من التغيير، او احساسا من جانب كل عشيرة، بالأمان بالانتماء الى بيئة خاصة بها؟

بالامكان التوقف عند عهد رئيس الجمهورية الاول بعد الاستقلال، اي بشارة الخوري الذي اعترف الفرنسيون باستقلال لبنان خلال عهده في 22 تشرين الثاني/نوفمبر العام 1943، حيث تفاهم مع رئيس الحكومة وقتها رياض الصلح على ما بات يعرف باسم “الميثاق الوطني”، وهو اتفاق غير مكتوب نظم اسس التحاصص الطائفي الذي كان قائما. وبالاضافة الى المناصب الثلاثة الاولى التي اشرنا اليها سابقا، اي رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان، للموارنة والسنة والشيعة على التوالي، تم تقاسم الغنائم الاخرى، فنائب رئيس البرلمان سيكون من الروم الأرثوذكس، وقيادة الجيش للموارنة، ورئاسة اركان الجيش للدروز، اما البرلمان فستكون الغالبية فيه للمسيحيين.

بشارة الخوري

ووفقا ل “الميثاق الوطني” هذا، ما بين الخوري ورياض الصلح الذي ينتصب تمثاله قبالة المتظاهرين منذ 17 تشرين اول/ اكتوبر الماضي، امام السراي الحكومي في وسط بيروت، تم التوافق على اعتراف المسيحيين الموارنة بالهوية العربية للبنان، مقابل تخلي المسلمين عن مطلب الوحدة مع سوريا الذي كانت تنادي به غالبية المسلمين السنة.

اذا، “الميثاق الوطني”، نظم المحاصصة التي نعيشها اليوم، ونشاهد تداعياتها المتفجرة الان، وهي التي قادت، من بين عوامل عدة، بشكل مباشر الى حرب اهلية في العام 1975، اذ ان الغالبية التي كانت للمسيحيين، تبدلت مع التغيير الدموغرافي الكبير الذي شهده لبنان مقارنة كان عليه الحال قبل الاستقلال. وعندما حانت ظروف نهاية الحرب الاهلية بسبب تغيرات اقليمية ودولية، وبرعاية سعودية، ابرم “اتفاق الطائف” العام 1989 الذي ادخل تعديلات على “الميثاق الوطني”، فصار البرلمان مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وتم تقليص صلاحات رئيس الجمهورية الماروني.

شاهدنا على جدران احد المنازل المدمرة في وسط بيروت بفعل القذائف والرصاص بعد الحرب الاهلية، شعارا يقول “اما عدالة شاملة او فوضى شاملة”.

وبمعنى آخر، ان المعضلة اذا اردنا ان نفهم تعقيدات المشهد اللبناني الشديد الالتباس ان اللبنانيين، المنتفضين في الشوارع الان، هم فعليا ساهموا في اعادة انتاج الطبقة السياسية الطائفية بانتخاباتها وموالاتها على مر السنوات منذ الانتداب الفرنسي وقبله على قواعد طائفية ومذهبية وليست وطنية جامعة، وبقواعد ديموقراطية، في ظاهرها، لكنها في جوهرها شكل من اشكال التبعية القبلية، بانتظار نشوء وعي جامع، وقوى حية أكثر جرأة على التغيير.

ليست هذه دعوة الى اليأس. لكن السؤال مشروع عما اذا كان هذا الحراك الثوري، يمتلك مثل هذه الجرأة؟ حتى الان لا يبدو ذلك، فيما يضع المتظاهرون على سلم أولوياتهم اجراء انتخابات جديدة، ستعيد باجماع المراقبين، اعادة انتاج السياسيين انفسهم، مع بعض التجميل، لا اكثر.

انتهت الحرب ولم ينجح اللبنانيون في حسم هويتهم الوطنية ولا وأد تمايزاتهم في الطائفية السياسية المؤتلفة، وما لم تولد الشجاعة رؤية تعدل “الميثاق الوطني” وبعض مواد دستور الجمهورية التي تشرع انقساماتنا الطائفية، سنظل نجتر حروبنا ونزاعاتنا وأزماتنا التي ترتد سريعا الى طوائفنا ومذاهبنا.

هذا هو اختبار الثورة الحقيقي.

خليل حرب 

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".