مع نهاية العام 2019 الذي كان حافلًا بالتطورات والأحداث الكبيرة في المنطقة والعالم، يتعقد المشهد الإقليمي والدولي بعد تداخل الساحات وتشابكها، ووصول بعضها إلى النهايات، وإعادة خلط الأوراق في كلٍ من العراق ولبنان، بعدما شهد هذان البلدان نوعًا من الاستقرار الأمني، ولا سيما بعد الانتصار على داعش، والنجاح في إخراجه من المشهد..
لقراءة اللوحة بشكل صحيح لا بدّ من إعادة ترتيب المشهد..
يحقق محور المقاومة إنجازًا كبيرًا في حرب اليمن بعد حرب ضروس، وحصار لا إنساني قام به الأميركي والسعودي اللذان باتا عاجزين عن إحداث تحوّل يغيّر مجرى الحرب ونتائجها عبر القوة الصلبة والنار والدمار والحصار. إضافة إلى أنّ الحصار الأميركي على إيران في طريقه إلى الفشل، إضافة الى التخبّط في الانسحاب او البقاء في الشرق السوري، وهذا باعتراف غير شخصية أميركية، يقول ريتشارد هاس في مقالته الأخيرة الأسبوع الماضي، إنّ إدارة ترامب “تعلم أن الانسحاب من الشرق الأوسط ليس سهلًا، ولا يخلو من المخاطر والتكاليف، المطلوب هو واضح: استعداد أكبر للولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية المحدودة، إذا لزم الأمر، ورغبة في ربط العقوبات بالدبلوماسية.” ولكن مع كلّ هذه الإجراءات الأميركية، فإنها لم تؤدِّ إلى إجراء تغيير مؤثّر، يمنح إدارة ترامب أي ورقة إضافية يستخدمها في الانتخابات الأميركية القادمة. والواضح أنّ المشهد الأميركي يتحكّم فيه عاملان: الانتخابات الأميركية، وإجراءات عزل دونالد ترامب، هذا ما حدا بالرئيس ترامب إلى التغيير في الأسلوب، عبر محاولة العبث في الساحة الإيرانية الداخلية، فينجح الإيرانيون في استيعاب الصدمة وتخطي ارتداداتها الكبيرة، والخروج من الأزمة في أيام قليلة..تنتقل واشنطن إلى تأزيم الساحة العراقية متكّئة على الأبواب المشرعة التي فتحتها الحكومات العراقية التي تعاقبت على الحكم، ولم تقدّم ما يصبو إليه الشعب العراقي الذي أنهكته الحروب المتتالية.
وهذا ما استغلته أيضًا واشنطن، وركبت موجة المظاهرات التي ضربت لبنان، فحاولت عبرها تغيير نتائج انتخابات العام 2018، وليس تغيير النظام الذي تتحكّم واشنطن في الكثير من مفاصله ومؤسساته، ولكنّ المقاومة وحلفاءها عملوا على إفشال المخطط الأميركي في إلغاء نتائج الانتخابات،ولكنهم لم ينجحوا بعد في إخراج البلد من الأزمة الاقتصادية، عبر تشكيل حكومة جديدة، استبعد وكلاء أميركا أنفسهم منها، ولهذا حديث يطول..
في خضمّ هذا المشهد يواصل الإسرائيلي اعتداءاته في سوريا، وعلى الحدود العراقية السورية.
ويحاول دونالد ترامب المحشور في عدد من الملفات، منها الملف الإيراني والملف الكوري الشمالي الهروب، فيعمل جاهدًا للعبث بالساحة العراقية، فيجعل عادل عبد المهدي يدفع ثمن جرأته بفتح معبر القائم، إضافة إلى العقود التجارية مع الصين، ومع روسيا، فتخرج المظاهرات منذ الأول من تشرين أول 2019 في الشارع الذي يسقِط رئيس الحكومة عبد المهدي، وهروب الرئيس العراقي برهم صالح من المواجهة، فيستقيل.
قصف مراكز الحشد الشعبي
تمثّل الحدث المبدّل في الغارات الأميركية على مراكز الحشد الشعبي في معبر القائم، التي يحاول ترامب من خلالها إرسال رسالة إلى إيران، وتحميلها مسؤولية الهجمات على قواعد أميركية في العراق..
يتعقّد الواقع السياسي العراقي، فيظهر حلفاء طهران مربكين، منذ بداية تشرين الأول الماضي، ولكن العراقيين يستخدمون اليوم السلاح نفسه الذي استخدمه الأميركيون ضدهم، عبر التظاهرات واستخدام الجماهير.
فالسؤال المطروح دائمًا لماذا لايجرؤ ترامب على ضرب إيران، طالما أنها مسؤولة عن الهجمات؟ وهذا له سياق آخر..
-يأتي الرد الأوّلي من الحشد على الاعتداءات من خلال تظاهرات كبيرة نظّمها نحو السفارة الأميركية في بغداد. وهذا هو السلاح نفسه الذي استخدمه الأميركيون. فاليوم يشربون من الكأس المرّة نفسها، ولا سيما أنهم محكومون بفوبيا السفارات، من إيران إلى بيروت وصولًا إلى ليبيا، وهو ما عبّر عنه السيناتور الأميركي كريس مورفي الذي قال إنّ الهجوم على سفارتنا في بغداد يذكّرنا بكل كوارث ترامب في الشرق الأوسط..
إضافة إلى أنّ على العراقيين إعادة تفعيل مشروع القانون الذي يطلب إخراج الأميركيين من العراق بصورة قانونية ونهائية..
ينظّم حلفاء إيران صفوفهم، بعدما أصيب الشارع العراقي في كرامته جراء الغارة الأميركية، ما أحدث تحوّلًا في المزاج الشعبي نحو إعادة تفعيل الكراهية للأميركيين..
السؤال المطروح اليوم: هل من مصلحة الحشد الشعبي الرد عسكريًا؟
ليس معلومًا أنّ الرد العسكري العراقي الموضعي على القواعد الأميركية قد يحقّق نتيجة حاسمةً في الرد على الصلف الأميركي ومنعه من تكرارها، لأنّ الأميركيين قادرون على تكرار الضربات لمواقع الحشد الشعبي المكشوفة والمعروفة والمنفلشة على مساحة الأراضي العراقية، ما قد يؤدي إلى وقوع إصابات كبيرة وخسائر فادحة في صفوفه، وعدم القدرة على خوض مواجهة مفتوحة مع الأميركيين،لأنّ الظروف الميدانية تختلف عما كان يحصل بعد اجتياح العراق في التاسع من نيسان من العام 2003.
-هل انتهت هذه الجولة هنا؟ وماذا حققت الغارة الأميركية؟ وكيف يستطيع العراقيون استثمار ما حصل؟
يتمثّل ذلك في اتجاهين: الأول في الضغط على الأميركي في موضوع المطالبة المستمرة في تفعيل طلب الانسحاب عبر الإعلام، وفي تفعيل القانون الرامي لانسحاب الجيش الأميركي من العراق، والثاني في منع تكرار الغارات على الحشد الشعبي، عبر اتباع سياسة الإنهاك السياسي، لأنّ الحشد الشعبي اندمج مع المؤسسة العسكرية العراقية الشرعية، ولا مسوّغ لاستهدافه. إضافة إلى تعرية شرعية الوجود الأميركي في العراق، والاستثمار في الغضب الشعبي من الاعتداء على الحشد الشعبي الذي أعاد تشكيل المشهدالعراقي عبر :
-إفراغ التظاهرات التي يدعمها الأميركيون من مضمونها السياسي،وتشكيل حكومة ترضي طموحات الشعب العراقي، وتغذية شعور الاعتراض على التدخل الأميركي الذي يجهد للعبث في الساحة العراقية، وهذا ما سيؤدي إلى نزع الأوراق القوية التي يستخدمها الأميركي في حربه على العراق ومحور المقاومة في إحدى الساحات الرئيسة في الحرب المفتوحة بين الأميركيين والمحور..
د.طارق عبود
باحث وكاتب/لبنان