“معركة هواوي”، ان صح التعبير، ليست الحرب الاولى بين الصين والعالم الغربي، وربما لن تكون الاخيرة. كما انها، برغم خطورتها واهميتها، ليست الاكثر بشاعة. فللصين حكايات قديمة تروى ولا يعرفها كثيرون، كما لا يرددها كثيرون لانها تكشف عن جوانب سوداء في علاقات الامم، والدول الكبرى مع “المستعمرات”. “هواوي”، بهذا المعنى، تفصيل اضافي في الصراع التاريخي على الاسواق.
خليل حرب
+++++++++++++++++++++++++++++++++
تحتدم السجالات حول “هواوي”، الشركة الصينية التي تعد العالم بما لم يعهده من قبل في تكنولوجيا الهواتف. تنتصب ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب في وجهها: ممنوع!
يعيدك التاريخ الى الوراء. يعيدك الى تناقضات المصالح وجشع الدول، كانما هناك من يقول ان على الصين ان تبقى مستهلكة. نحبها ونفضلها كسوق كبير لبضائعنا، اما ان تصبح هي الصانعة، وهي المصدرة، وهي المنتجة والمهيمنة، فهذا ما لا تقبله واشنطن، ولا يمكنها التعايش معه، منذ ان شعرت قبل ثلاثة عقود ان العالم صار طيعا بين يديها، كقوة عظمى وحيدة، تحكم وتتاجر وتحتكر.
“هواوي” تعني في مكان ما ان ذلك بدا يتغير. والمهيمن والمسيطر والمحتكر لا يمكنه ان يرضى بسهولة، انكسار سطوته.
تعيدنا هذه المفارقة الى زمن ليس بعيدا، قبل اقل من قرنين، عندما فرضت على الصين ما سمي ب “حروب الافيون”. وباختصار، كانت الصين تقاوم الافيون الذي خدر شعبها، وكانت بريطانيا، القوة الاستعمارية الاكبر وقتها، تفرضه فرضا على الصينيين وتجبرهم على ادمانه، بكل ما في الكلمة من معنى.
هكذا بكل بساطة. لان الميزان التجاري مع الصين لم يكن لصالح النظام الملكي البريطاني، “ابتكرت” الامبراطورية البريطانية، وسيلة لتعويض الفارق. زرع الافيون في مناطق الهند (الخاضعة بدورها للحكم البريطاني) والمتاجرة به في الاسواق الصينية حتى لو كان الحكم الامبراطوري الصيني، يعارض ذلك ويحظره.
في “حرب الافيون” الاولى، خاضتها بريطانيا لاجبار الصين على فتح اسواقها امام الافيون. ارتكبت مجازر مروعة بحق الصينيين لمقاومتهم. في الاساس، لم تكن الصين راغبة في فتح اسواقها بالكامل امام البضائع البريطانية. الافيون كان خدعة تجارية بريطانية لتقليص الفجوة في الميزان التجاري بينهما، واسترداد عملات الفضة التي كان يدفعها البريطانيون لشراء الشاي والحرير والبورسلان من التجار الصينيين. لا اكثر ولا اقل.
لكن النتيجة كانت مفجعة. عشرات ملايين الصينيين ادمنوا الافيون بسبب سياسات “شركة الهند الشرقية البريطانية” التي اشرفت على تطبيق الخديعة التجارية، على الرغم من الحظر الذي فرضه الامبراطور الصيني يونغ تشينغ.
المفارقة العجيبة ان بريطانيا استخدمت وقتها ذريعة حرية التجارة لتحاول ان تفرض على الصين فتح اسواقها وموانئها امام البضائع البريطانية، واندلعت الحرب في العام 1840 واستمرت عامين، وانتهت بفرض اتفاقية تجارية جديدة على بكين، لم تحقق من خلالها لندن كل مصالحها، فحاولت تعديلها لكن الامبراطور رفض، فاندلعت حرب الافيون الثانية في العام 1856. هذه المرة لم تذهب بريطانيا وحدها الى الحرب، اصطحبت معها الفرنسيين متذرعة بتفتيش الصينيين لسفينة ترفع العلم البريطاني ومقتل مبشر فرنسي.
خضعت الصين مجددا. لكن ماذا كانت ابرز بنود الاتفاق الجديد؟ فتح خمسة موانئ جديدة امام التجارة الدولية، وتحديد الافيون كسلعة يسمح استيرادها، بالاضافة الى تسهيل دخول المسيحية الى الاراضي الصينية. دخلت الولايات المتحدة وروسيا الى جانب بريطانيا وفرنسا في التوقيع على الاتفاق الجديد مع الصين.
تتحدث التقديرات عن اكثر من مئة مليون مدمن على الافيون في ذلك الوقت. ولم تضع “حروب الافيون” اوزارها بشكل كامل حتى حلول العام 1911. ظل الادمان افة تعاني منها الصين حتى مجيء الزعيم الصيني ماو تسي تونغ.
قصة اخرى يجب ان تروى في سياق ما قبل “حرب الهواوي”. في اواخر القرن التاسع عشر، وكاحدى نتائج حروب الافيون والتغلغل الغربي في حياة الصينيين، واقتصادهم، وثقافتهم الخاصة ومعتقداتهم الروحية، تفجرت احتجاجات دموية عرفت باسم “ثورة البوكسر (الملاكمين)”.
ملاكمو “جمعية الحق والقبضات المتالفة”، نظموا في العام 1899 ما يشبه الانتفاضة الشعبية ضد الهيمنة الاجنبية على بلادهم في عدة مقاطعات، بما في ذلك بكين التي حاصروها. لكن الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وروسيا والمانيا وايطاليا وفرنسا والنمسا-المجر، ارسلت جيوشها تحت شعار انقاذ الرعايا الاجانب وحماية المسيحيين والبعثات الدبلوماسية، وانتهى التدخل العسكري بفرض عقوبات على الحكم الصيني وانتزاع تنازلات تجارية اقتصادية اضافية من الصينيين.
تستعاد هذه الوقائع التاريخية لمحاولة فهم اشمل ل”معركة هواوي” الحالية. ان الدول الكبرى وقتها هي التي اشعلت حروبا باسم “حرية التجارة” ومن اجل فتح الاسواق الصينية، وفرض معادلات تجارية لصالحها في التعامل مع بكين. هل يختلف الحال الان في ما يتعلق ب”هواوي”؟ ربما ليس كثيرا.
فالمهم، انه قبل “ثورة البوكسر” وخلال “حروب الافيون”، كانت دبلوماسية جديدة تترسخ في العلاقات بين الصين والدول الكبرى، اسمها “سياسة الابواب المفتوحة” التي للمفارقة، كان اول من طالب بها، الولايات المتحدة، ومنذ بدايات القرن التاسع عشر.
اطلقت المبادرة الاميركية رسميا في العام 1899 من جانب وزير الخارجية الاميركية جون هاي، وتستند الى فكرة ان لكل الدول حقوق متساوية في التعامل مع الصين تجاريا. اساس المبادرة كان قائما على فكرة الخشية من ان يؤدي التناحر، او الصراع التجاري بين الدول الكبرى على الاسواق الصينية، الى شرذمة مصالح هذه الدول وزعزعة وحدة الاراضي الصينية بين المتنافسين التجاريين. ولهذا، فانها نصت على حق كل دولة في الحصول على فرص وصول متساوية الى اي من المنافذ التجارية في الصين.
جزء مما يجري الان، في ما يتعلق ب “هواوي”، ان الصين تكافح لدخول اسواق الدول الكبرى. المفارقة تعكس تحولا في موازين القوى العالمية اقتصاديا. هناك كسر للاحتكار الاميركي لتكنولوجيا الهواتف. لكنها معركة من الصعب التكهن بنتائجها نظرا لهذا التداخل، لا التاريخي فحسب كالذي استعرضناه، وانما لتداخل المصالح بين الشركات العابرة للدول والقارات، ولتباين مواقف الدول الكبرى ايضا، بالاضافة الى ما يبدو انه تفوق صيني استثنائي في تكنولوجيا الجيل الخامس، وهذا بالتحديد ما اثار هلع ادارة ترامب.
الصين، الشيوعية بنظام حكمها، صارت كمن يطالب بسياسة “الابواب المفتوحة” التي فرضت عليها منذ اكثر من مئة عام. لا يبدو اننا سنذهب الى “حرب البوكسر” جديدة، ولا الى “حروب افيون” جديدة. الادمان هنا مختلف، الهواتف الخلوية صارت آفة، تدمن عليها كل شعوب الارض، والصين تريد ان تقدم لنا هذه السلعة الفريدة.