الرئيسية » العالم والخليج » فنزويلا : من صراع التاريخ والنفط الى التحريض على انقلاب

فنزويلا : من صراع التاريخ والنفط الى التحريض على انقلاب


نجاة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من محاولة الاغتيال اثناء عرض عسكري في شهر اب 2018، سلطت الاضواء على الازمات الداخلية الكبرى التي تعصف بهذه الدولة البوليفارية العائمة على بحر من النفط، والضغط الهائل الذي تتعرض له من “جارتها” الى الشمال، اي الولايات المتحدة الاميركية التي تتحدث علانية عن “تغيير النظام” في كاراكاس، وها هو الرئيس دونالد ترامب يسارع الى محاولة نزع الشرعية عن مادورو لتغرق البلاد في الانقسام.

خليل حرب

++++++++++++++++++++++++++++

على الرغم من نجاة مادورو من محاولة الاغتيال تلك بطائرتين بلا طيار مفخختين، الا ان المشهد استجلب ذكريات الانقلابات والحروب الاهلية التي عصفت بأميركا الجنوبية لعشرات السنين، والتدخلات التي تمارسها واشنطن تاريخيا في القارة التي تعتبرها “حديقتها الخلفية”، سواء في تشيلي او نيكاراغوا والارجنتين وهاييتي وبنما وغيرها.

في تموز 2017، المح مارك بومبيو عندما كان لا يزال رئيسا لوكالة الاستخبارات المركزية (سي اي ايه)، صراحة الى ان المخابرات الاميركية تعمل من اجل تغيير النظام في فنزويلا و”فهم الديناميات هناك”، وتتعاون مع دولتين اقليميتين من اجل ذلك، هما كولومبيا والمكسيك.

لا يتوقف الامر هنا. الرئيس الاميركي دونالد ترامب نفسه، استخدم تعبير “تغيير النظام” في كاراكاس، بل ذهب ابعد من ذلك عندما قال قبل شهور انه لا يستبعد استخدام القوة العسكرية ضد هذا البلد.

المعزوفة الفنزويلية تلقى صدى واسعا في “المؤسسة التقليدية” (الايستابليشمانت الحاكمة فعليا). مثلا صحيفة “نيويورك تايمز” التي تختلف مع ترامب في كل شيء تقريبا، تعنون قبل شهور قليلة في افتتاحية لها “كيف يمكن التخلص من السيد مادورو قبل ان يستكمل تدمير بلاده؟”.

مجلة “فورين بوليسي” الاميركية من جهتها، تخلص الى القول “لنعترف اولا ان الحوار او الديبلوماسية لا يمكن ان تاتي بتسوية للازمة الفنزويلية. من الواضح الان ان نظام مادورو لا ينوي التفاوض حول خروجه من السلطة، ويراها كفرص للمناورة لشراء الوقت”.

ولهذا، فان الوصفة المثالية بالنسبة الى صناع الرأي في الولايات المتحدة، الاعتماد على المؤسسة العسكرية الفنزويلية، بحسب مجلة “الايكونوميست” التي تقول “مصير مادورو يقرره الجيش الفنزويلي..وليس الناس مباشرة”.

انها بمثابة دعوات صريحة لتجاهل صناديق الاقتراع التي منحت مادورو ولاية رئاسية ثانية في ايار 2018.

ويبدو كأن فنزويلا، او “فينيسيا الصغيرة” بحسب الرواية السائدة حول اصل الاسم، لم تتحرر في الاساس. سيمون بوليفار عندما ثار في القرن التاسع عشر على الاسبان لانهاء حكمهم الذي استمر اكثر من 300 عام، انتصر عليهم عسكريا بالفعل، لكن الطبقة السياسية التي اعتلت مسرح الحكم بعدها ظلت مرتبطة بمصالحها واهوائها بالحكم الملكي في مدريد. ان جانبا اساسيا من “عظمة” الامبراطورية الاسبانية اقيم على استغلال ثروات فنزويلا الغنية بالذهب والفحم والحديد وغيره من المعادن طوال مئات السنين.

ولم يكن حظ الفنزويليين افضل بعد الاستقلال ونشوء دولة فنزويلا البوليفارية وظهور النفط. ذلك ان الحزبين الاساسيين اللذين تناوبا على الحكم في كاراكاس، ومع اكتشاف النفط وتحوله الى مورد رئيسي للدولة، طوال النصف الثاني من القرن العشرين، حولا موارده المالية الى جيوب المسؤولين وحسابات بنكية خاصة في سويسرا والولايات المتحدة.

تستعاد هذه الذاكرة لمحاولة فهم الواقع المرير الذي يعيشه الفنزويليون هذه الايام برغم تمتع بلدهم بالثروات. وما لم يكتب لبضعة ملايين فنزويلي في الماضي الاستفادة منه بسبب الاستعمار اولا ثم الطبقة الحاكمة الموالية للاستعمار نفسه ثانيا، فان نحو 30 مليون فنزويلي هذه الايام وجدوا بلادهم في حالة فقر مدقع، وتضخم مليوني اهدر مدخراتهم، وفساد مستشر وسوء ادارة ضيع الكثير من الامال.  

انها الوصفة الملائمة لانفجار شامل يؤججها اولا تراجع اسعار النفط، التي تمثل اكثر من 90 في المئة من موادر الدولة، وتصاعد العقوبات الاميركية مع كل مرحلة سياسية تمر بها البلاد، منذ عهد هوغو تشافيز وصولا الى خليفته مادورو الان.

ويقول المدير المشترك لمركز ابحاث السياسات والاقتصاد في واشنطن مارك ويزبورت انه خلال الاعوام ال15 الماضية، فان السياسة الاميركية تمثلت في السعي الى تغيير النظام في كاراكاس. ويضيف “انهم يحاولون التخلص من هذا الحكم منذ زمن طويل، وهم يشعرون انهم يقتربون من تحقيق ذلك اكثر من اي وقت مضى”.

تتربع فنزويلا بحسب بعض التقديرات على نحو 1300 مليار برميل نفط في منطقة حزام اورينكو النفطي. وفنزويلا واحدة من الدول الست التي سيكون بمقدورها تزويد العالم بما يقرب من نصف احتياجاته من النفط بحلول العام 2020 وبعد أن تكون احتياطيات الكثير من الدول المنتجة للنفط قد بدات رحلة النضوب الطبيعي وصار انتاجها عاجزا عن مواكبة الطلب العالمي المتزايد، وذلك الى جانب السعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران.

فنزويلا تتصدر دول “اوبك” لتحصد المركز الاول من حيث احتياطيات النفط العالمية المؤكدة بنسبة 20.2%.

ان من شان هذه النسبة ان تسيل لعاب كثيرين، والولايات المتحدة تحديدا اذ تستورد غالبية الانتاج الفنزويلي من النفط الذي يتميز بحسب الخبير النفطي الدكتور حسين عبدالله، بالكثافة العالية، ولهذا فان معظمه يكرر في المصافي الاميركية الواقعة في الخليج الاميركي الذي يبعد عن موانئ فنزويلا بمسافة تقطعها الناقلات في خمسة ايام، بينما تمتد تلك المدة إلى خمسة اسابيع بالنسبة للناقلات القادمة من الشرق الاوسط. ومن هنا استطاعت فنزويلا مع المكسيك الاحتفاظ بمركز شبه احتكاري في تزويد منطقة الخليج الاميركي بالزيت الثقيل الذي يمثل الجانب الاكبر مما يكرر في مصافيها.

ولا زالت واشنطن لم تغفر لكاراكاس خسارة شركاتها اليد الطولى في النفط الفنزويلي. ففي عهد الرئيس السابق هوغو تشافيز تعززت سيطرة الدولة على القطاع النفطي، لكنه لم يكن الرجل الذي امم نفط فنزويلا، اذ ان هذه الخطوة جرت في العام 1976، اي قبل عهده بكثير، عندما جرى تاميم شركة “بيتروليوس دي فنزويلا”. وبكل الاحوال، لم يكن ذلك التاميم شاملا، اذ ظلت الشركات الكبرى حاضرة بقوة استثماراتها  ونفوذها في الاقتصاد الفنزويلي، ولم تكن للعوائد التي تصل الى جيوب مواطني فنزويلا قيمة تذكر تعكس حقيقة حجم الثروات الهائل التي كانت تجنيها الشركات الاجنبية او الشركة الوطنية.

ولهذا، فان تشافيز عندما صعد الى الحكم في انتخابات العام 1998 حمل الى الفقراء وعودا بتسخير العوائد النفطية لمصلحتهم. ويقول محللون انه اغدق ملايين الدولارات من عائدات الثروة النفطية على برامج التنمية الاجتماعية لدعم الفقراء الاكثر عوزا، خلال فترة حكمه التي استمرت 14 عاما، خصوصا بعد تحسن اسعار النفط، وهو امر لم يتوفر بشكل كبير لخليفته مادورو بعد انهيار اسعار النفط عالميا.

وفي العام 2007، امر تشافيز بالسيطرة على مشروعات النفط التي تديرها شركات اجنبية في منطقة اورينكو الغنية بالنفط والغاز، ومن بين هذه الشركات التي طالتها الاجراءات “بي.إل.سي” و”اكسون موبيل” و”شيفرون” و”كونوكوفليبس” و”توتال إس.ايه” و”ستات اويل ايه.اس.ايه”.

وعلى الرغم من ان  تشافيز اعلن وقتها ان “خصخصة النفط الفنزويلي قد انتهت.. وهذا يعد في الحقيقة تاميما للنفط في فنزويلا”، الا انه اشار تحديدا الى مسعاه لكي تحصل الشركة الوطنية الفنزويلية الحكومية على 60 في المئة من هذه المشروعات، من خلال المفاوضات مع الشركات الاجنبية قائلا “لا نريدها ان تذهب .. نريد منهم ان يكونوا شركاء لكن بحصة اقلية”.

ومثلما جرى خلال التاميم الاولي في السبعينات، فقد اظهرت الوقائع لاحقا ان فنزويلا لم تتمكن من مواكبة تطور عمليات الانتاج من ناحية التكنولوجيا والخبرات والراسمال اللازم. ولهذا، تظهر ارقام منظمة “اوبك” ان انتاج النفط في فنزويلا هبط حوالي 13 في المئة خلال العام الماضي (2017)، الى ادنى مستوى سنوي في 28 عاما، وشكل ذلك كارثة اضافية على الاقتصاد الفنزويلي المترنح، طالما ان اعتماده شبه شامل على ايرادات النفط. اقيل العديد من المسؤولين واعتقل العشرات بتهم الفساد وسوء ادارة قطاع النفط، وامر الرئيس مادورو، في محاولة لانقاذ الموقف، بالعمل على اعادة زيادة القدرة الانتاجية.

ولم تكن تلك ماساة فنزويلية وحيدة. مؤخرا، اعلن صندوق النقد الدولي، ان معدل التضخم في فنزويلا قد يتجاوز مليون في المئة. وقال المسؤول البارز في صندوق النقد الدولي، اليخاندرو فيرنر ان الاضطرابات الاقتصادية التي شهدتها فنزويلا شبيهة بتلك التي حدثت في المانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وزيمبابوي في بداية العقد الماضي.

وقال فيرنر انه “في حال استمر الوضع على ما هو عليه الان، فان الاقتصاد الفنزويلي سوف ينكمش بنسبة 50 في المئة”، مضيفا انه سيكون من بين اشد الانخفاضات الاقتصادية في العالم خلال 6 عقود.

وتعاني فنزويلا من العجز التام فى الناتج المحلى الاجمالي الذى يترواح من 18 إلى 20 % كما ارتفعت حجم الديون ووصلت لما يقترب من 120 مليار دولار العام الماضي مع استمرار الحكومة فى عدم الدفع.

وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الاميركية، فان فنزويلا تحولت من مركز واعد لجني الارباح بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات الى ثقب اسود يلتهم ايراداتها، خصوصا بسبب عملية الخفض الكبير لعملة البوليفار المحلية والقيود على النقد الاجنبي وقرارات منع هذه الشركات من تحويل ارباحها الى الخارج. وتناولت الصحيفة الاميركية اوضاع عدد من هذه الشركات العالمية، من بينها “شركة برنكس” لخدمات الحماية، وشركة “بروكتر اند غامبل”، وشركة “اميركان ايرلاينز” و”دلتا ايرلاينز” وشركة “كولغيت -بالموليف”.

لصحيفة “واشنطن بوست” ايضا دورها في رسم بعض معالم المشهد الفنزويلي. فهي دولة “فاشلة”، ولديها اسوا نمو اقتصادي، واسوا تضخم، وتحتل المرتبة التاسعة عالميا في معدلات البطالة، والمركز الثاني في معدلات الجرائم والتاسعة عالميا في الفساد. انه انهيار اجتماعي – اقتصادي كامل تقول “واشنطن بوست”.

تتابع ان “الشيء الوحيد الذي توفره فنزويلا بشكل جيد اليوم: ساعات وساعات من طوابير الانتظار” للحصول على العديد من السلع التي اصبحت نادرة. 

لكن نادرا ما تتطرق الصحف الاميركية والغربية عموما الى الجانب الاخر من المعاناة الفنزويلية الناجمة عن التضييق الاميركي المستمر على كاراكاس منذ التسعينات، مع بداية عهد هوغو تشافيز ووصولا الى عهد مادورو الان. نائب الرئيس الاميركي مايك بينس قال قبل شهرين أن فنزويلا “دولة فاشلة” تهدد امن ورخاء دول نصف الكرة الغربي والشعب الاميركي ايضا !

في العام 2017، فرضت واشنطن عقوبات وصفتها فنزويلا بانها العدوان الاكبر ضدها منذ 200 سنة. وبعد انتخابات ايار الماضي التي ابقت مادورو في الحكم لولاية جديدة، اتهمته واشنطن بانه يحرم شعبه من امكانية الوصول إلى المواد الغذائية والطبية، ويسجن ممثلي المعارضة، ويقمع حرية التعبير باستخدامه العنف.

ووقع ترامب مرسوما بعيد الانتخابات مباشرة، ينص على فرض مزيد من العزلة الاقتصادية على فنزويلا، اذ يحد من قدرة كاراكاس على بيع اصول تعود إلى الدولة، ويحظر بموجبها على الشركات الاميركية التعامل مع الديون والاوراق المالية التي تصدرها الحكومة الفنزويلية وشركة النفط الحكومية الجديدة، والتي تستحق خلال اكثر من 30 و 90 يوما على التوالي. كما حظر المعاملات مع عدد من الديون القائمة التي يحتفظ بها القطاع العام في فنزويلا، وحصول حكومة فنزويلا على ارباح من اسهمها.

وتجاهر جهات ومؤسسات اميركية بارزة بالاعلان عن مساعدات بعشرات ملايين الدولارات لحلفائهم المعارضين للنظام في كاراكاس، وتوفر لهم منصات اعلامية واسعة لمخاطبة الجمهور الفنزويلي وتحريض الراي العام على الحكم. لا بل ان المساعدات تمتد لتطال حملاتهم الانتخابية سواء على مستوى البرلمان او الرئاسة.

وحدها الايام القادمة ستكشف ما اذا كان مادورو قادرا على تجاوز التحديات الاكبر التي تواجه فنزويلا منذ استقلالها، خصوصا لجهة انتشال الوضع الاقتصادي المتردي بما يحصن مسيرة حكمه بتعزيز حاضنته الشعبية، وهي الحصن الرئيسي للحكم، او من خلال الحنكة في التعامل مع ضغوط واشنطن وجموح ادارتها الحالية.

ما بعد محاولة الاغتيال

اعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو اعتقال بعض المتورطين بمحاولة اغتياله اثناء القائه خطابا في استعراض عسكري في كاراكاس، موضحا أن “بعض فصائل اليمين المتطرف داخل البلاد المتواطئة مع متامرين في بوغوتا (كولومبيا) وميامي (اميركا) هي المسؤولة عن الهجوم”.

وقال مادورو “تم التعاقد مع 11 قاتلا شاركوا في أعمال الشغب عامي 2014 و2017، وعرضوا عليهم 50 مليون دولار والاقامة في الولايات المتحدة”.

وكان الرئيس الكولومبي مانويل سانتوس قال قبل ايام من محاولة الاغتيال ان سقوط حكومة الرئيس الفنزويلي “وشيك رغم قمع الشعب”، مشددا على أن “الخيار الافضل لكولومبيا وفنزويلا يكمن في رحيل مادورو بشكل سلمي”.

http://www.general-security.gov.lb/uploads/magazines/60/17.pdf

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".