إشاعات كثيرة تصدر سنوياً في لبنان حول تلوث البحر وخطره على السباحين وعلى مستهلكي الأسماك. لكن، ما مدى صحة ذلك؟ هو ما يتحدث عنه خبراء المجلس الوطني للبحوث العلمية.
لم تكن مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية تدرك أنّ التقرير الذي أصدرته، الغريب في توقيته ومدى دقة نتائجه، سيترك موجة من التخبط، على المستويين الشعبي والرسمي. لكنّ المستوى الرسمي، على صعيد الوزارات المعنية كوزارة البيئة والداخلية والبلديات والنقل العام والزراعة، لم يتحرك، بالرغم من دوره الجوهري، في توضيح ملابسات النتائج التي نعت فيها المصلحة، البحر اللبناني وشيّعته إلى مثواه الأخير، معلنة موت رياضة السباحة في لبنان، وانتحار مهنة صيد السمك، والمتاجرة به.
اللبنانيون على الصعيد الشعبي، استقبلوا الأمر بترحاب فوضوي، على جري عادتهم، وبدأوا في نشر صور على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، يشتكون فيها من التلوث الذي ضرب بحرهم فجأة بعد تقرير المصلحة، وبدأ تجار البيئة في استثمار نتائج التقرير لمصالحهم الشخصية، التي لا تفيد أحداً، إلا لغايات شخصية.
وحده المجلس الوطني للبحوث العلمية، كان لديه الجواب والمعرفة العلمية الكاملة، الشفافة والصادقة تجاه ما يجري على شواطئ بحر لبنان وفي أعماقه.
النتائج التي أصدرها المجلس الوطني للبحوث العلمية اليوم الخميس في مقره، ستشكل في الأيام المقبلة، على ما يبدو، حفلة ساخنة مليئة بالنقاشات حول النتائج الإيجابية الصادمة التي خرج بها التقرير حول نوعية مياه البحر، والتي تظهر وجود 16 نقطة على الشاطئ اللبناني تحمل نوعية مياه ذات تصنيف جيد وصالحة للسباحة وممارسة النشاطات المائية والشاطئية كافة، وسط وجود 5 نقاط مياه ذات تصنيف مقبول، و4 نقاط ذات تصنيف سيئ وملوث ولا يمكن السباحة فيها أبداً.
علمياً، يعتمد المركز الوطني لعلوم البحار، التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية، والذي أنجز التقرير، على 25 محطة ثابتة، يستخدمها لمراقبة الحالة البكتيرية لمياه الشاطئ اللبناني منذ ما يزيد عن 30 عاماً، على طول الشاطئ اللبناني من العريضة شمالاً حتى الناقورة جنوباً على امتداد 220 كلم.
ويشمل التقرير الصادر في 30 صفحة، نتائج لفحوصات دورية ومتتالية للفترة الممتدة من يناير/ كانون الثاني 2016 حتى يونيو/ حزيران 2018، علماً بأنّ المنهجية المتّبعة لهذه الدراسة لا تأتي اعتباطياً إنّما تتبع المنهجية التي يوصي بها برنامج الأمم المتحدة لمراقبة الشواطئ (MEDPOL).
يقول الدكتور معين حمزة، الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية، إنّ “الدراسة التي نعرضها اليوم هي من أكثر الدراسات دقةً وإحراجاً، لأنّ المعلومات التي يعممها البعض عن أنّ كلّ الشاطئ اللبناني ملوث، كلام غير دقيق”، مشيراً في الوقت نفسه، إلى أنّه لا يريد أن يفهم الناس، أنّه في حال أشرنا إلى وجود نقاط ملوثة، أنّنا بذلك “نقدم صك براءة ذمة عن تقصير الدولة وأجهزتها، واستهتارها بالحفاظ على استدامة البيئة في لبنان، والحفاظ على الثروة السمكية والتنوع الحيوي الذي يتميز به الشاطئ الشرقي لدول البحر الأبيض المتوسط”.
على الصعيد التقني والعلمي، يشرح الدكتور ميلاد فخري، مدير مركز علوم البحار، كيفية الحصول على العينات. يقول لـ”العربي الجديد” إنّ “فريق المركز يتولى على مدار نحو شهرين مراقبة 25 محطة موجودة على طول الشاطئ ويحصل على عينات من المياه، في الأمكنة التي يرتادها الناس للسباحة، وتؤخذ العينات من عمق 50 سنتيمتراً”. يضيف أنّ هذه “العينات توضع مباشرة في التبريد وتُنقل إلى مختبر المركز، حيث يقوم الباحثون ومساعدوهم، بتحليلها لمعرفة تركيز البكتيريا العقدية والبرازية القولونية”، والتي من خلالها “نستطيع معرفة ما إذا كانت هناك مؤشرات تشير إلى احتمال وجود بكتيريا معدية”.
يشير فخري إلى أنّ النقاط القريبة من المعامل يوجد فيها تلوث كيميائي، وهذه النتائج صدرت وما زالت تصدر عن أطروحات دكتوراه لطلاب المركز، يشير فيها معدوها إلى أنّ هناك بعض النقاط الملوثة كيميائياً على الشاطئ اللبناني.
وتعتبر هذه المحطات الثابتة بحسب فخري، مصدراً علمياً موثوقاً فيه وموثّقاً لاستصدار معلومات علمية دقيقة، وهي تتضمن عينات من المسابح الشعبية، ومصبات الأنهار، والشواطئ الصخرية والرملية، بالإضافة إلى النقاط القريبة من المعامل الصناعية والتي تستخدم للمقارنة. ويضيف فخري أنّ مؤشرات التلوث البكتيري المعتمدة في هذه الدراسة هي المستعمرات (colonies)، وهي: العقديات البرازية (Fecal Streptococci)، والقولونيات البرازية (Fecal Coliforms). وبعدها تبدأ المعلومات بالتبلور، وفق معايير علمية محددة معتمدة عالمياً من قبل منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP/MAP)، لتكون هي الركيزة الأساسية لإعطاء النتائج الدقيقة الواجب الإعلان عنها، مع العلم أنّ كلّ محطة تمثّل جزءاً محدوداً ولا تعكس الحالة البيئية للمنطقة كلّها.
كيف يجري تقييم الشواطئ وصلاحيتها للسباحة؟
يعتمد المركز الوطني لعلوم البحار على المعايير العالمية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، لتصنيف مياه الشاطئ كالآتي: جيدة، أي من 0 إلى 200 مستعمرة بكتيريا في 100 ملل من مياه البحر. مقبولة، أي من 200 إلى 500 مستعمرة بكتيريا في 100 ملل من مياه البحر. سيئة وملوثة، أي أكثر من 500 مستعمرة بكتيريا في 100 ملل من مياه البحر. وقد جاءت النتائج على الشكل التالي:
النقاط المصنفة “جيدة” هي، في الشمال: شاطئ الأحلام في المنية، وقرب الجامعة الدولية العربية في طرابلس، ودير الناطور في أنفة، والشاطئ الأزرق في الهري، وبالقرب من الحائط الجنوبي لمعمل الكيماويات في سلعاتا، وحمى البترون قرب مركز علوم البحار. وفي جبل لبنان (وسط): البحصة والشاطئ الرملي في جبيل، وتحت جسر الفيدار، وقرب مصب نهر إبراهيم في العقيبة، ومقابل مسبح سان بول في طبرجا، والمعاملتين في جونية، والشاطئ الرملي في الدامور، ودير المخلص في الرميلة. وفي الجنوب: شاطئ محمية صور الرملي، وقرب مرفأ الصيادين في الناقورة.
أما النقاط المصنفة “مقبولة” فهي في الشمال: قرب مطار القليعات في عكار، والميناء- جزيرة عبد الوهاب في طرابلس. وفي بيروت: مرفأ الصيادين الجديد. وفي الجنوب: المسبح الشعبي في صيدا، والمسبح شبه الشعبي في الصرفند.
وتبقى النقاط المصنفة “سيئة وملوثة” بحسب التقرير، وهي في الشمال: الشاطئ الشعبي في طرابلس. وفي ساحل جبل لبنان: قرب مصب نهر أنطلياس. وفي بيروت: المنارة الجديدة، وشاطئ الرملة البيضاء الشعبي.
يعلّق حمزة على نتائج التقرير قائلاً إنّ “الدراسة تجري في مناطق تتعرض لضغوطات بشرية واقتصادية هائلة والنتائج قد تتغير ما بين لحظة وأخرى، خصوصاً أنّ اختيار بعض المواقع جاء بناء على الأماكن التي يرتادها الناس مجاناً، لا سيما أنّ كلفة الدخول إلى المسابح الخاصة، التي تملك أنظمة صحية لمعالجة المياه بمادة الكلورين، باهظة جداً. كلام حمزة العلمي، يفسره بأنّ مصادر التلوث العشوائية قد تغير طبيعة النتائج التي نحصل عليها، نظراً لاستسهال “المتعهدين والمقاولين والبلديات في توجيه مصارف الصرف الصحي والمياه الآسنة والنفايات الصناعية إلى البحر، مما يغير النتائج بين ليلة وضحاها.
عملياً، فإنّ النتائج التي يصدرها المجلس ليست طارئة عليه، فهي جزء من مهامه الأساسية التي يقوم بها مركز علوم البحار منذ منتصف الثمانينيات، وذلك بواسطة التسهيلات التقنية المتطورة المتوافرة على الباخرة العلمية “قانا”. وحتى العام 2000، كانت الدراسات محصورة ما بين العريضة شمالاً والرملة البيضاء في بيروت وبعد تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي امتدت هذه الدراسات حتى الناقورة جنوباً.
فاتورة باهظة
في ما يبدو، فإنّ الاحتفاء بجمال لبنان وتنوع تضاريسه لن يفيد طويلاً، وعلى الجميع أن يعرف أنّ الفاتورة البيئية التي يكبدها لبنان للدول المجاورة في البحر الأبيض المتوسط أصبحت باهظة، إذ بدأ في الدول الأوروبية الحديث عن بعض النفايات البلاستيكية منذ العام 1997، والتي تجرها التيارات البحرية من جنوب المتوسط إلى شماله، وصولاً إلى شواطئ قبرص واليونان.
يتذكر البيئيون رفع سوريا دعوى قضائية على لبنان في العام 1997 بعد وصول النفايات البلاستيكية إلى شواطئ اللاذقية، آتية من مكب نفايات جبل صيدا، جنوب لبنان، على بعد 225 كلم.
وقد تقدمت اليونان في العام 2003 بدعوى أخرى على لبنان، بعدما استيقظ سكانها ذات يوم ليجدوا كميات كبيرة من النفايات البلاستيكية على شواطئهم، آتية أيضاً من جبل نفايات صيدا.
يشعر الدكتور حمزة بالحرج عندما يزور الدول الأوروبية، منطلقاً من حادثة حصلت معه قبل ثلاثة أشهر، عندما كان في زيارة علمية إلى المركز الوطني لعلوم البحار في قبرص، فعرض العاملون عليه عدداً من عينات النفايات البلاستيكية، على سبيل المثل لا الحصر، منها أكياس بلاستيكية تُستخدم لتوضيب أرغفة الخبز لمخابز لبنانية شهيرة، بالإضافة إلى علب بلاستيكية لوضع الحلويات العربية، وغيرها من النفايات البلاستيكية.
لبنان لم يعد جاراً محبوباً بالنسبة إلى دول الجوار. والنفايات التي ترمى على الشاطئ اللبناني لا تتفكك بسهولة، وهناك نفايات عضوية وبلاستيكية تتطلب وقتاً طويلاً كي تتحلل، الأمر الذي يراكم المسؤوليات على لبنان، برمي أوساخه على الآخرين.
نتيجة لهذا التسيب البيئي، ترى الدول الأجنبية نفايات لبنان، وتعامل الحكومة السلبي معها، عاملاً سيئاً يضرّ بالعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الدول الأخرى، خصوصاً أنّ البحر الأبيض المتوسط يتعرض لضغوطات بشرية واقتصادية هائلة كونه أشبه ببحيرة شبه مغلقة، لكنّ ذلك لا ينفي أنّ هناك بعض دول المتوسط التي يبلغ تعداد سكانها في أقصاه 100 مليون نسمة قد استطاعت وقف التدهور البيئي على شواطئها، بينما لم يستطع لبنان الذي يبلغ تعداد سكانه 6 ملايين نسمة أن يحلّ مشكلة النفايات.
هل السمك البلدي بخير؟
بعد أزمة النفايات التي بدأت عام 2015، انتشرت موجة من الصور التي تشير إلى أنّ السمك في لبنان ليس صالحاً للاستهلاك البشري، إلّا أنّ المركز الوطني لعلوم البحار كان له رأي آخر يفيد بأنّ السمكة البلدية ما زالت بخير. فقد أظهرت نتائج الدراسة التي أعدها المركز أنّ تحليل تركيزات المعادن الثقيلة في الأحياء البحرية (أسماك، صدف، قريدس)، المأخوذة من ثلاث مناطق (طرابلس، بيروت، صيدا) وفي فترات زمنية مختلفة قد بينت أنّها أقل من الحد الأقصى المسموح به من المستويات التي حددتها المفوضية الأوروبية للمعادن الثقيلة في العلف والطعام (EURL).
يقول الدكتور ميلاد فخري إنّ الدراسة استهدفت تحليل ثلاثة أنواع من المعادن الثقيلة في عضل السمك، وبعض أنواع الصدف والقريدس وهي الزئبق (Hg)، والكادميوم (Cd)، والرصاص (Pb).
ويطمئن الدكتور حمزة إلى أنّ الأسماك التي يجري اصطيادها بعيداً من الشواطئ التي تعاني من التلوث، تتمتع بحالة غذائية مُرضية ويمكن استهلاكها، على عكس السمك المستورد من أسواق الخارج، الذي لا توجد أيّ قيود للسيطرة عليه بحسب حمزة، إذ لا يستطيع المجلس معرفة مصدره الحقيقي، كونه يمر بعدة حلقات ما بين النقل والتبريد والحفظ، ما بين أسواق الجملة وأسواق البيع بالتجزئة (المفرّق)، ولا يمكن معرفة مصدر تدهور القيمة الغذائية للسمكة، خصوصاً أن لبنان يستورد الأسماك من عدد كبير من الدول مثل موريتانيا والسنغال والخليج العربي والبحر الأحمر والإسكندرية وأوروبا والهند، ويعوّل الناس على السمك المجلّد كونه الأرخص ثمناً.
الصحافي البيئي مصطفى رعد
عن صحيفة “العربي الجديد”