الرئيسية » اراء ودراسات » رسالة إلى صديق عزيز: عن صدأ الروح وأسن النفس!

رسالة إلى صديق عزيز: عن صدأ الروح وأسن النفس!

 

(إلى إ…)

 

أظنني أعرفك جيداً يا صديقي، وأعرف مقدار حرصك على ترجمة الأفكار المطابقة. لم تثنك الخيبات، ولا التجارب المريرة، ولا الأثمان الباهظة. والحق أن في الأمر صميمية تبعث على الإعجاب، ومعه الفرح الأمل.

ولعلني لا أذيع سراً إن قلت إن ما أعرفه عنك يفوق ما أعرفه منك، فسنوات الصداقة العميقة والمتينة (برغم الشوائب القليلة العابرة!) قد أتاحت لي الوقوف على الكثير من الوقائع التي إن دلّت فعلى امتلاك صاحبها لشجاعة أخلاقية تشمل، إلى القول والفعل، التجرؤ على “الحدود”، حدود السلطات المحصّنة بالمال الفاسد، أو حدود الموروثات الموصولة بالفوات. كما وتدل على إقدام لا يبالي بعوائد الحياد الزائف وأرباحه، ولا بمكاسب التبعية ومغانمها. وفوق هذا وذاك يحضر الحرص والسهر على ثوابت الانحيازات السياسية والاجتماعية الحقّة التي اخترناها وعملنا بهديها، وترجمناها في بذل بلغ، في مراحل معينة، حد استرخاص الكثير مما جرت العادة أن يُحرص عليه، وهو ما أقدمنا عليه بتلقائية وأريحية أوجبها الوعي المرهف ومعه طلب العدالة ونشدان التغيير، وحتمتها ظروف النشأة والتكوين السليمين.

ولعلك تدرك، أكثر مني، قيمة تلك الثوابت وأهميتها في صوغ مسارنا اللاحق وتحصينه. وهي الثوابت التي يتأكد لنا، يوماً بعد الآخر، صميميتها. ويكفي للبرهان على ذلك أنها جمعت ما عادت وذرّرته الهزيمة الكبرى. جمعت، وعلى نبض واحد، الألوان، والأجناس، والأجيال، والأهواء… واخترقت حواجز الجغرافيا الزائفة، وعبرت العصبيات المفبركة، وسائر الانتماءات المضللة، كما وكسرت مع الكثير من التفاوتات التي أريد لها أن تكون صلدة، والتي كان بوسعها أن تكون كذلك، لولا وضوح الرؤية، وصلابة الإرادة، وحرارة المشاعر، وصدق البذل وعنفوانه. وهي، أيضاً، الثوابت التي برهنت الأيام والأحداث على ديمومتها، وأكّدت أنها لا تقوم ولا تستمر إلا بمقدار ما تنجح في أن تكون عابرة للأنانيات والصغائر ومعها القسمة والمساومات، وبالذات منها، تلك التي تتلفّع بمساحيق الأمر الواقع وأضاليله، أو تتسلح بقوة الرواج المشبوه وخدعه، وهو ما اندفع إليه غير أُلعبان، من رفاق الأمس النضالي، ممن ترهل وشاخ قبل الأوان، وهو ما كان حين توهم أنه بالانقلاب الناعم، أو الصاخب، سينال ما يحقق له “الوصول” الخاص، أو يعوّضه خيبات وصول سابق لم يتحقق. فجعل يلهث خلف المكاسب الدنيئة التي راجت، والعوائد المشبوهة التي تراءت، وكان همّه المباشر، إلى الكسب السريع والرخيص، نيل ما يغطي به على أصيله المتجذر (والعاصي على المداواة): هشاشة نفس، وعجز روح، وصغار ذات، وغيرها من الموبقات التي ساعده الصخب العام، وانشغالنا بالمهم عنه، على تمويهها. فراح يزعق بالترّهات للتعمية على وضاعة انقلابه، وذيلية مراميه، بل وتاجر، كأسوأ ما تكون التجارة، بما لا يملك من رأسمال نضالي وأخلاقي أكّدت الأيام الماضية واللاحقة أن صلته به كانت أكثر من واهية. وقائمة هؤلاء تطول وتمتد!

ولعلك تذكر جيداً، يوم تأكدت الهزيمة، وكان ذلك في نهايات ثمانينات القرن الماضي، كم كابدنا جراء الوقوف عند الثوابت التي التصقنا بها التصاق الظفر بالإصبع، وكم تحملنا في سبيلها من تبعات ثقيلة لم تكن بخافية، بما في ذلك ضريبة المغايرة الشاملة والقاطعة، وهي المغايرة التي أريد لها أن تصير إثماً يجدر بصاحبه التطهر منه، بل والتكفير عنها بالمسارعة إلى الاندراج في موجات التحلّل والتنصّل من كل ما هو قيمي أصيل وإنساني جميل، وحتى التبرؤ من كل انحياز يشي باتصال، ولو باهت، بواحدة من القيم الأخلاقية المخالفة. وهي القيم التي باتت، مع هزيمة أبطالها الحقيقيين، وصنّاعها “المجهولين”، وانكشاف أو سقوط حملتها المزيفين المتراكضين إلى التوبة، واللاهثين وراء الموائد وفتاتها، موضع إدانة مشبوهة، بوصفها من الفضائل المنقرضة، أو المنبوذة من حفنة ساقطين، لا يتورعون، بعضهم بدافع من الخضوع، وبعضهم الآخر بدافع من الانتهازية المقيتة، عن الكسر مع روادع الاجتماع الإنساني السوي.

ومن الكثير الذي تيسر لي أن أعرفه: حسن ظنك، ونقاء قلبك، ونبل نفسك وغيرها من الصفات الصميمية التي جعلتك، مرات ومرات، عرضة لخناجر الوشاية والغدر والإسفاف، من هذا وذاك من المارقين. أعرف كل ذلك وأفهمه، بل وأفهم بواعثه التي منعتك وتمنعك وستمنعك من الإتيان بما يغاير فطرتك، أو يناقض وعيك وقيمك… لكني لا أعرف، ولا أفهم، وهنا مكمن الاستعصاء، ومناسبة الرسالة، السبب الذي يجعلك على هذا القدر المفرط من التسامح، بل وهذه المغالاة والخرافية في الترفع، والذي أوصلك، هذه المرة، أيضاً، كما أوصلك سابقاً، وبرغم التجارب المخيبة، إلى أن توافق على معاودة ارتكاب الخطأ الجسيم إياه! فهذا الذي تعاود إيوائه، لا يملك إلا أن يكون سليل ما كانه ماضياً، وما سيكونه مستقبلاً، من صغار تشبّعته نفسه النتنة، وضعة ألفتها روحه الصدئة. وسيعاود، إن عاجلاً أو آجلاً، وبعدما يستأمن، عملاً بجوهره الجبان، السيرة نفسها، سيرة الارتزاق الرخيص، والالتحاق المهين… إنك في خطوتك الغريبة هذه، كمن يراهن على وهم أو سراب. بل إنك بفعلتك غير المفهومة، هذه، تكون قد اخترت أن ترسل الإشارات الخاطئة، وهي، وبالمناسبة، ولأنك صاحبها، ستكون مؤثرة، وسيكون لها آثار سلبية بعيدة ومديدة. فمن جعل من الوشاية مهنة، ومن الطعن منهجاً، ومن الارتزاق وسيلة وغاية، لا يستحق غير الاحتقار والاشمئزاز العميقين. وإذا شئت الكرم، وهذا حسبك المعروف، فأنصح بالشفقة ومعها الرثاء لا أكثر. أما أن تعطف عليه وتعاود إيوائه، فكأنك بذلك تتناسى، أو تتجاهل (وهذا ما لا يطابق جرأتك المعهودة، ويتعارض مع حساسيتك الصارمة)، منهجية، بل وجوهرية الأفعال التي أتاها، والتي لا يأتيها، بهذا الكمال أو الإتقان، إلا من عجنته النذالة، وشكّلته الوضاعة، وأخرجه النقصان، وهذا، لعمري، سابقة لا بد ستشجع أمثاله، ومن هم على شاكلته، ممن امتهن الغدر واحترف الوشاية وأدمن الارتزاق بأبشع صوره وأحطّها.

وأختم بالقول: إن ما يوجب الشفقة، حصراً، ويحرّض عليها، أن هذا التعس الذي لم تتيسّر له فرص التنشئة الطيبة ولا الإصلاح اللاحق، وعاش يقاسي النقص والحرمان العميقين، لن يحظى بالقدرة على المقايسة السوية، ولن يتعلم من دروس ماضيه المشين، بالرغم من كثرة الفرص ووفرة الوسائل. وأظنك أكثر من يعلم أن هذا البائس كان وسيظل أقلنا في كل شيء. فعلى كاهليه، كما في دواخله العفنة، حمل ويحمل عبء نقص عميم وجبن ذميم، قيض لغياب الحيلة، ومحدودية الذكاء، ورداءة الخلق، وسوء التدبير أن يستولي على طيّاته العميقة. ثم جاء تقدمه في العمر، وخلافاً لآمال بعضنا البلهاء، ليفاقم من أمراض نشأته البائسة، ونواقصها المريعة، والتي سرعان ما بانت وتفشت دفعة واحدة. فظهرت حقيقة الأسن الكامن، وتجلياته القبيحة، في الغدر والطعن والوشاية… والتي تركزت، أكثر ما تركزت، على أولئك، الذين مدوا يد الإحسان والمساعدة، وأنت في مقدمهم، وحاولوا انتشاله من مستنقع أثبت أنه لا يريد ولا يُحسن العيش بعيداً عنه…

صديقي، عساك تدرك حساسية ما أنت بصدده، وما أنت بصدده قد لا يكون بلا أثر، ولو طفيف، على صورة المشروع الذي تواصل التصدّي له بنبل المناضلين ونزاهتهم.

 

نجيب نصرالله

عن جورنال