ينبغي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي صرح في حواره الأخير مع «الأتلانتك» أنه لا يعرف أي شيء عن الوهابية، أن يقرأ كتاب «إله التوحش» (2016 ـــ مركز أوال) للباحث والناقد علي الديري. هذا الكتاب يوثق رحلة الوهاب من العينية حتى الدرعي، ثم لقاءه بمحمد بن سعود عام 1745، ويدفع قارئه للتساؤل عن أساس فكرة عبد الوهاب، وعن أهداف دعوته السياسية.
لا يخرج الكتاب عن الرواية الرسمية السعودية المأخوذة من المؤرخيْن: ابن غنام الذي رافق عبد الوهاب في دعوته، وابن بشر الذي وثق قيام الدولتين السعوديتين الأولى والثانية في كتابه «المجد في تاريخ نجد». بحسب الرواية، كانت الدرعية لا تزال حيّاً فقيراً لا يتجاوز عدد منازله السبعين، عند وفود عبد الوهاب إليها. إلا أنها غدت بعد بروز دعوته وتحالفه مع محمد بن سعود، مكاناً يطفح بالبذخ، يزيّن فيه الرجال أسلحتهم بالذهب والفضة.
تذكر الرواية أيضاً أن الدعوة الوهابية كانت قائمةً على التوحيد والغزو، وأن عبد الوهاب الذي صنّف كل من ادعى معرفة الإسلام والتوحيد قبله «كاذباً ومفترياً»، هو سليلٌ للنبي في رسالته ومسيرته، وحتى في تحمله للأذى ونزول الوحي عليه. لاحقاً، يوضّح الديري في كتابه أن تفسير عبد الوهاب لمفهوم التوحيد يختلف عن تفسيرات غيره من علماء الدين. إذ إن التوحيد لديه يكمن في الاختصام مع عباد الله، قبل أن يختصم الله معهم، وأن الجسر الوحيد الذي يصل المؤمنين بربهم هو الطاعة.
الطاعة هنا، لم تعد طاعةً للخالق فقط، إنّما طاعة لعبد الوهاب والسلطة السياسية المتمثلة بآل سعود. هذه الاستراتيجية، هي التي مكنت عبد الوهاب في غزواته التي وصفها ابن بشر بأنها «أينما سلكت ملكت وأينما حلت فتكت وسفكت»، بعد سنتين من ولادة دعوته.
يسترسل الديري في شرح هذا المفهوم: «قد تبدو مفاهيم الانقياد والاستسلام والطاعة لله من الناحية النظرية صحيحةً ومسلّماً بها في تعريف الإسلام، لكن حين نعاينها في تطبيقها العلمي، فإنها تستحيل إلى استسلام آخر وطاعة أخرى وبراءة أخرى لغير الله، إنها استسلام إلى مفهوم التوحيد كما صاغه محمد بن عبد الوهاب، وطاعة للجهاز التنظيمي الذي أنشأه في دولة الدرعية، وصار في ما بعد جهازاً يحدد مفهوم الإسلام وتطبيقه الصحيح».
تأسست الدولة السعودية الأولى (1745-1818) على فتاوى التكفير: فإما أن يكون المرء موحِّداً يغزو، أو كافراً يُغزى. هذا الأمر أنتج تاريخاً أُحادياً، وهوية لا تقبل التعدد. يسأل الديري عن رواية الأطراف الأخرى كالشيعة، الإسماعيليين، والمتصوفين، أو حتى المذاهب السنية المعارضة للدعوة الوهابية. ويعتبر أن الدولة السعودية فشلت في تطوير عقد اجتماعي حتى هذه اللحظة «الذين كانوا أعداء للدعوة وللدولة هم أيضاً أعداء للدعوة وللدولة اليوم، بل إن الذي لا يعتنق عقيدة الدولة في التوحيد هو خارج المواطنة ويقام عليه الحد الشرعي». ومن اللافت أن الديري لم يعتبر الممارسة العنفية التي رافقت تأسيس الدولة السعودية حالةً خاصة، مستدركاً بذلك ما توصّل إليه الكاتب والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان حين قال: «وقائع العنف حصلت في بدايات كل التشكيلات السياسية». لكن المختلف في هذه الحالة، هو عدم تخلي المملكة السعودية عن العنف، بل تشريعها له كصيغة للمواطنة عن طريق الوهابية. يقول الباحث في هذا السياق: « لم يعد يكفي قول لا إله إلا الله للتوحيد، ولا الإيمان بذلك، لتكون موحداً، وبالتالي مواطناً يصان دمك وعرضك ومالك عليك أن تنضم إلى جيش الدرعية”.
إن استراتيجية عبد الوهاب، على رغم نجاحها، تحمل مفارقة كبيرة. حين كان هذا الداعي يوعز بمحاربة «المشركين» كالحنابلة وغيرهم من طوائف المسلمين، كان أيضاً يطالب بطاعة آل سعود كأنهم «آلهة مفترضة». وقد أكد ذلك الديري عندما ذكر: «هذا ما فعلته الوهابية باسم التوحيد، حولت ولي الأمر وسلطته وأجهزة حكمه إلى خالق، يجب طاعته والامتثال لأمره والقبول بالمعنى الذي يعطيه للدين واعتبرت الخروج عنه أو عليه أو الاختلاف معه هو الكفر ودونه القتل”.
مع تعاظم نفوذ آل سعود، أصبحت الوهابية أداة تتحكم بالدين بحسب إرادتهم. وتحولت معها الزعامة إلى دولة، والمشيخة إلى مؤسسات، كما حال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما هيئة كبار العلماء التي يعينها الملك، فباتت ممثل دين الدولة الشرعي. لذلك بتنا نجد أن المؤسسة الدينية التي تحرّم التقارب بين الأديان مثلاً، هي نفسها التي تبيح التمثيل الدبلوماسي للدول الغربية في السعودية، وتبرر تعاونها مع «جيوش الكفار» في حرب الخليج. وعلى المنوال نفسه، نرى فتاويها حول سياقة المرأة مثلاً تتراقص بين الإجازة والمنع، بحسب ما يقتضيه الموال السياسي.
يتيح لك «إله التوحش» أن تفهم الأدوار ومتغيرات المرحلة، وأن تستوعب الفكرة الوهابية من متنها. في ضوء كل ذلك، ستدرك أن ما يجري الترويج له اليوم في السعودية على أنه إصلاح وعودة للإسلام المعتدل، ليس إلا إعادة تموضع للمؤسسة الدينية الوهابية في السعودية، وتجديد للفتاوى لتتكيف مع المزاج السياسي الجديد وتصبغه بالشرعية. هكذا يصبح نافذاً وواجباً للطاعة، ويكون هو التوحيد ودونه الكفر.
علي العلوي
*ناشط بحريني
(عن جريدة الاخبار اللبنانية)
https://al-akhbar.com/Literature_Arts/249167