لا تزال قضية «انتهاك حظر المنشطات» تلقي بظلالها على المشهد الرياضي الروسي. فبعد الحملة الهائلة التي تعرّضت لها روسيا في هذا الإطار، وبلغت حد الحديث عن وجود برنامج «رسمي» لـ«تنشيط» الرياضيين، فإنّ الشكوك بدأت تتصاعد بشأن هذه الاتهامات، خصوصاً في ظل «الملابسات الغريبة» بشأن واقعة تعاطي لاعبين روسيين المنشطات في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة في كوريا الجنوبية، ما دفع بموقع «روسيا انسايدر» إلى التساؤل عن دور مفترض للمخابرات الأميركية في هذا الملف!
ثمة ملابسات غريبة، حول «الانتهاكات» المزعومة لقواعد مكافحة المنشطات من جانب اللاعبين الروس، والتي تجددت فصولها، في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة في بيونغ تشانغ، حين اتُهم رياضيان بتناول عقاقير منشّطة، على نحو مناقض لأبسط قواعد المنطق.
المثير في الأمر، أنه من غير المنطقي أن يقوم رياضي باستهلاك مادة كيميائية عديمة الجدوى في الرياضة التي يمارسها، لا سيما إذا كان متأكداً من أن اللجان الطبّية الفاحصة، ستكتشف أثراً لها في جسمه، بما يترتب على ذلك من عواقب سلبية هائلة.
هذه هي بالضبط حالة لاعب الـ«كيرلنغ» الروسي ألكسندر كروشلنيتسي، الذي سيضطر إلى تسليم الميدالية البرونزية التي منحت له، وكذلك ميدالية زوجته، وهي شريكته في هذه الرياضة، لأنّ أثاراً من مادة الـ«ميلدونيوم» عثر عليها في تحليل لعيّنة من البول، أُخذت منه، مع الإشارة إلى أن النتائج السابقة للتحليل نفسه أتت سلبية!
ولتوضيح الأمر أكثر، فإنّ الـ«ميلدونيوم» هو عقار يستخدم لتنشيط القلب من خلال زيادة تدفق الدم. وفي هذا السياق، فإنّ اتهام الرياضي باستخدام هذا النوع من المنشطات، يصبح مناقضاً لأبسط بديهيات المنطق، إذا ما علمنا أن رياضة مثل الـ«كيرلنغ» تتطلب التركيز واتخاذ القرار على نحو استراتيجي، أكثر من المجهود البدني، لا بل أن تعاطي المنشّطات قد يؤثر سلباً على القدرات المطلوبة للفوز!
هذا ما دفع بالكثير من اللاعبين إلى أن يبدوا استغرابهم لفكرة استخدام المنشطات في رياضة «الكيرلنغ»، حتى أن احد لاعبي المنتخب الدنماركي علّق على الأمر قائلاً: «أعتقد معظم الناس سيضحكون ويتساءلون: لماذا يحتاج اللاعب إلى المنشطات؟”.
كروشلنيتسي بدوره، أنكر بشدّة، أن يكون قد تناول العقاقير المحظورة، إذ قال: «أنا أعارض بشكل قاطع تعاطي المنشّطات… ولم يحدث إطلاقاً أن شاركت في مباراة رياضية واستخدمت أية مواد محظورة».
الظروف الغريبة المرتبطة بكروشلنيتسي، تنطبق تماماً على حالة اللاعبة الروسية في رياضة «الزلاجة الجماعية» نيديجدا سيرغييفا، التي خضعت للكثير من الفحوصات السلبية (النظيفة)، إلى أن خضعت لفحص ايجابي، تبيّن من خلاله وجود آثار في جسمها من مادة «تريميتازيدين».
وكما هي الحال مع رياضة «الكيرلنغ»، فإنّ «الزلاجة الجماعية» هي رياضة أخرى تتطلب المهارة الجسدية والعقلية… ولكن ليس التحمل البدني!
والجدير بالذكر، في هذا السياق، أن سرغييفا، لطالما عارضت فكرة استخدام المنشطات، لا بل شاركت في حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نشرت خلالها صورة ذاتية لها وهي ترتدي قميصاً كتبت عليه عبارة تعلن فيها التزامها «تنظيف الرياضة».
وفي اجتماع اللجنة الاولمبية الدولية، الذي عقد في 25 شباط/فبراير الماضي، للإعلان عن انتهاء دورة الالعاب الشتوية بيونغ تشانغ، قالت نيكول هيفرتز رئيسة الفريق التنفيذي للجنة الاولمبية، إنّ الرياضيين الروس خضعوا لاختبارات «أكثر من أيّ رياضيين اخرين»، وأن ثمة قناعة بأنّ الوفد الرياضي الروسي الذي يضم 168 لاعباً كان «نظيفاً»، لا بل رأت أن الانتهاكات الروسية بشأن المنشّطات كانت «غريبة جداً».
المدير الطبي والعلمي للجنة الاولمبية الدولية، الدكتور ريتشارد بلودجيت عرض المزيد من التفاصيل، في هذا الشأن، إذ أشار إلى أن منشّط الـ«ميلدونيوم» عديم الفائدة في رياضة «الكيرلنغ»، ثم ذهب أبعد من ذلك، حيث أشار إلى أن الحديث عن انتهاك قواعد مكافحة المنشّطات بالنسبة إلى مادة «تريميتازيدين» قد يكون في الخطأ، خصوصاً أنها المركب الأم لأدوية الصداع والصداع النصفي المتاحة، وخاصة في الصين واليابان، وإذا تم العثور على هذه المادة في جسم الرياضي، كما حدث مع نيديجدا سيرغييفا، فقد لا يكون ذلك بالضرورة انتهاكاً لقواعد مكافحة المنشطات، خصوصاً إذا كانت هذه المادة بمستوى منخفض جداً.
وباختصار، يبدو من المستبعد جداً أن يكون اللاعبان الروسيان قد تعمّدا استخدام منشّطات ليس لها فائدة، خصوصاً أن المرجّح أن يكونا على يقين بأن كل اللاعبين الروس، باتوا تحت مجهر اللجان الطبية، وأن أي فحص «ايجابي» من شأنه أن يلحق ضرراً كبيراً بهم، وبفريقهم.
من المستفيد؟
انطلاقاً مما سبق، يمكن الحديث عن احتمال آخر، وهو أن تكون مادتا «ميلدونيوم» أو«تريميتازيدين» قد وضعت للرياضيين الروسيين على نحو خفي في الغذاء، مع العلم بأنّ استهلاك هاتين المادتين لمرّة واحدة فقط، سيؤدي إلى اختبار نتيجته «إيجابية».
في الواقع، ثمة قوى عدّة على الساحة الدولية مستعدة للقتال من أجل التشهير بروسيا، من بوابة حملة البروباغندا المستمرة منذ عامين بشأن «المنشطات التي ترعاها الدولة»، وربما يكون الهدف من ذلك التأثير على الانتخابات الرئاسية المقبلة في روسيا، وتقويض استضافة روسيا لكأس العالم لكرة القدم خلال الصيف المقبل.
وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي أي آيه» التي لها باعٌ طويل في الأفعال الإجرامية الكبيرة والصغيرة، ومن المفترض أنه من غير الصعب على عملائها التسلل إلى المنشآت الأولمبية، أو رشوة شخص فاسد لوضع الـ«ميلدونيوم» أو مسحوق آخر في طعام شخص ما أو شرابه.
قد يسارع بعض الأشخاص إلى رفض هذه الفرضية، أو السخرية من المتحدثين عنها، واتهامهم بالإفراط في تبني «نظرية المؤامرة». هؤلاء المشككين تصرّفوا على هذا النحو أيضاً حين اقتنعوا بالرواية الأميركية عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل قبيل غزو العام 2003، وهي الرواية التي ثبت أنها نسجت بإدعّاءات كاذبة، دعّمتها «أدلة» مفبركة من قبل الـ«سي أي آيه».
ولا يخفى على أحد أن وكالة الاستخبارات المركزية قامت بالكثير من عمليات القتل ونفذت العديد من مؤامرات الانقلابات والتخريب، لا بل أن أساليبها موثقة في «الدليل» الرسمي لنشاطها، وهو ما كشف النقاب عنه، على سبيل المثال، الضابط السابق في الـ«سي أي آيه» جون ستوكويل، في كتابه «البحث عن الأعداء»، حين وثق الطريقة التي فبركت من خلالها الاستخبارات الأميركية قصة مزيّفة عن جنود كوبيين اغتصبوا النساء الأنغوليات، وذلك لتشويه سمعة كوبا.
ولدى وكالة المخابرات المركزية دوافع عديدة لاستهداف روسيا:
على النقيض من القادة الروس الذين يطلقون على الولايات المتحدة صفة “شريك”، يتعامل المسؤولون الأميركيون مع روسيا على نحو متزايد باعتبارها «عدوّاً». وتقول استراتيجية الأمن القومي الأميركية الأخيرة أنها تنوي الرد على روسيا كـ«خصم» إذ «سترد الولايات المتحدة على المنافسة السياسية والاقتصادية والعسكرية المتنامية التي تواجهها في جميع أنحاء العالم. الصين وروسيا تتحدّيان القوة الاميركية ونفوذ الولايات المتحدة ومصالحها، في محاولة لتقويض الامن والازدهار الاميركيين».
بالرغم من غياب الأدلة الواضحة، ثمة اعتقاد واسع النطاق في الولايات المتحدة بأن روسيا «تدخلت» في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. انتشرت المشاعر المعادية لروسيا فى الادعاء المبالغ فيه بأن العمل الروسي، الذي لم يثبت بعد، هو «عمل حرب … وعمل من أعمال الحرب الهجينة».
يتحدث المحافظون الجدد علناً عن ضرورة «معاقبة» روسيا، لا بل أن نائب مدير وكالة المخابرات المركزية السابق مايكل موريل أكد «أننا في حاجة إلى جعل الروس يدفعون الثمن».
هل أن وكالة المخابرات المركزية هي من دسّت المنشّطات للرياضيين الروس؟ لا نعرف على وجه التحديد، ولكن لا ينبغي أن نستبعد هذه الفرضية، فالـ«سي أي آيه» تمتلك الوسائل والفرص، وقبل كل شيء الدافع، إلى توريط الروس بشكل زائف في قضايا تعاطي جديدة للمنشطات، بهدف منع روسيا من تجاوز العقوبات الرياضية الدولية. لقد قاموا بأشياء أكثر خداعاً، وتلاعباً فحشاً… أكثر من ذلك بكثير.
انحياز وسائل الإعلام
لسوء الحظ، فأنّ وسائل الإعلام الغربية لن تحقق في هذا الاحتمال. ولا يمكن لوسائل الإعلام الغربية أن تقدم تقارير دقيقة عن أحداث مثل اجتماع اللجنة الأولمبية الدولية الأخير، حتى أن تصريح رئيسة الفريق التنفيذي للجنة الأولمبية لم يرد ذكره في وسائل الإعلام الغربية. وعلى هذا الأساس أيضاً، لم يرد أي ذكر لملاحظات الدكتور بلودجيت بشأن دقة الاتهامات ضد روسيا بشأن المنشّطات في تقارير «نيويورك تايمز» أو «الغارديان» أو «إنسايد ذا غايم».
لقد ذكرت وسائل الاعلام الغربية بشكل مخادع ان الرياضيين الروس «اعترفوا» بالانتهاكات. وفي الواقع، كل الرياضيين الروس ينكرون بشدة تناول المخدرات المحظورة.
انحياز ريتشارد ماكلارين
الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات كانت أيضاً منحازة. وقبل أكثر من عام، ادعى كبير محققيها ريتشارد ماكلارين أن «أكثر من ألف رياضي روسي استفادوا» من «المؤامرة» الروسية المزعومة لانتهاك نظام مكافحة المنشطات. وقال ماكلارين انه سيتم تقديم دليل لمختلف الاتحادات الرياضية.
وفي أيلول العام 2017، تبين أن التهم قد وجهت ضد 96 رياضياً. ومن بين هذه الاتهامات، قامت الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات بتبرئة 95 من الرياضيين فيما ثبت ان رياضياً واحد فقط انتهك القواعد. ومؤخراً، ألغت محكمة التحكيم في مجال الرياضة تماماً الحظر المفروض على 28 رياضياً روسياً.
وباختصار، يبدو أن اتهام ماكلارين لـ«أكثر من ألف رياضي مستفيد» كان مبالغة كبيرة أو تلفيق.
ماذا بعد؟
يبدو أن الأمور تسير على الطريق الصحيح، في ظل التخبّط الكبير في الحملة المتعددة الأطراف ضد روسيا، فقبل أيام، قامت اللجنة الأولمبية الدولية برفع الإيقاف الذي كان مفروضا على اللجنة الأولمبية الروسية، التي استعادت حقوقها تماماً كعضو في اللجنة الدولية.
ولكن ذلك ليس نهاية المطاف. فظهور حالات انتهاك لقواعد حظر المنشطات قد يعقّد الأمور أكثر فأكثر. وحتى لو كانت الفحوصات الطبية للاعبين الروس «نظيفة» فإنّ أولئك الذي يناصبون العداء لروسيا، يحاولون التشويش مجدداً لمنع الاندماج الكامل لروسيا ضمن المجتمع الرياضي العالمي.
ويُعتبر مدير مختبر موسكو السابق غريغوري رودتشنكوف السلاح الجديد في الحملة التي تتعرض لها روسيا، بعدما بات بطل فيلم «إيكاروس»، الذي تلقى تمويلاً كبيراً وترويجاً هائلاً، وحصد جائزة «أفضل فيلم وثائقي» في حفل «الأوسكار».
لقد اتُهم الروس بمحاولة قتل رودتشنكوف، وإذا حدث أن مات فجأة، في يوم ما، فسيكون ذلك على أيدي وكالة المخابرات المركزية. حتى الآن، قام رودشينكوف بكل المطلوب لإلحاق الضرر بالرياضة الروسية، الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به هو أن ينكر أو ينهار، حين يُسأل من قبل إحد اللجان المستقلة الخاصة بالاتهامات ضد روسيا. بذلك قد يكون رودتشنكوف المقتول أكثر قيمة من رودتشنكوف الحي. وستكون وفاته سلاحاً قويا لعرقلة تطبيع العلاقات مع روسيا .
في الختام، وبالعودة إلى أولمبياد بيونغ تشانغ، ثمة حاجة إلى أن يكون هناك توخي للحذر قبل افتراض انتهاك الرياضيين الروس لقواعد حظر المنشطات، خصوصاً إذا كان الأمر مرتبطاً بمزاعم حول «استهلاك» مواد عديمة الفائدة.
ولا بد من أن تؤخذ في الحسبان حقيقة أن قضية المنشطات باتت تخدم مصالح الغربيين الذين يسعون إلى مزيد من الصراع، ويواصلون جهودهم لإضعاف روسيا من خلال الحرب «الهجينة».
ولعلّ من المثير للحزن أن الغرب يستخدم «الأولمبياد» مطيّة لتلك الحرب، فالنشاط الرياضي العالمي، وُجد أساساً لتعزيز العلاقات السلمية، ولكن ثمة قوى تريد منع ذلك، مفضّلة السعي لتحقيق التفوق الاقتصادي والجيوسياسي على «الخصوم» وذلك عبر الرياضة الدولية التب باتت بالنسبة إليهم… مجرّد ساحة أخرى للحرب!
(عم موقع المسكوبية)