ما من تاريخ محدد لعالم المناظرات وانماطه والاعيبه. لكنه اتخذ شكله المعاصر والمتلفز، للمرة الاولى في العام 1960 بين المرشح الديمقراطي جون كينيدي والمرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون. تبدل عالم السياسة كثيرا منذ تلك اللحظة، وتغيرت معاييره وشروطه، واحيانا كثيرة تبدلت، بسببها، توازات وصراعات سياسية كبيرة.
+++++++++++++++++++++
وربما ترتبط المناظرات بالعهود الاولى للتجمعات البشرية، خصوصا عندما كانت تنشب خلافات ونزاعات فيما بينها، وكانت تقود احيانا الى جدال لفظي يحتم طرح وجهة نظر كل فريق، سواء لاقناع افراد كل فريق باحقية الموقف، او لاقناع الشخص او الجهة المفترض ان تفصل بينهم، سواء كان كبير القوم او اكثرهم حكمة او قوة.
ان مشهد المناظرة الافتراضي هذا، كان يقتضي مع تطور المجتمعات البشرية، تمثيلا لكل طرف، او لكل وجهة نظر، للتباري في التعبير عن الموقف او القضية، حيث يطمح كل طرف الى تحيق النصر على الطرف الاخر، ولهذا فان مثل هذه المناظرات كانت تتطلب مهارات كلامية للاقناع، وقدرة على دحض افكار الخصم، او حتى ترهيبه هو وجماعته. وكانت تتطلب فيما بعد تنظيم مكان اللقاء والتجمع، ومن يمثل كل طرف، ويدافع عن حقوقه.
وربما لهذا يعتقد الباحثون ان مملكة سبأ في اليمن، ربما صاغت اول برلمان في العالم، منذ نحو 1200 سنة قبل الميلاد، حيث كانت تطرح الاراء المتعارضة، اي اقدم بكثير من برلمان مملكة ليون (في اسبانيا) العام 1118 ميلادي، وقبل استخدام مصطلح “برلمان” في بريطانيا العام 1236. لكن المناظرات كانت تحدث ايضا في اطار النظام الديمقراطي الذي انشاته اثينا، وفي امبراطورية روما من خلال مجلس شيوخها.
ويروي مؤرخون ايضا ان ظاهرة المناظرات شاعت واشتهرت ايضا خلال العصر العباسي والتي كانت تعرف بالمنافرات والمفاخرات، وعرفت ايضا بالتركيز على المحاورات بين نخبة رجال الفكر والادب والفن، واحيانا كثيرة بحضور خليفة المسلمين، وبضيافته.
ومع ذلك، فان المناظرات التي تعكس بشكل او باخر قدرة المتنافسين على التواجه والمبارزة سياسيا وحيوية المجتمع، قد لا تكون احيانا سوى مناسبة لتفجير الصراعات السياسية. في اول مناظرة بين ترامب وبايدن في انتخابات 2020، تبادلا الاتهامات والانتقادات الحادة ليعززا بذلك اجواء التوتر المحمومة والشديدة بين الاميركيين، وخصوصا شريحة كبيرة من مؤيدي ترامب الذي كان رئيسا وقتها، وشعورهم بان هناك مؤامرة من الدولة العميقة باخراجه من البيت الابيض مهما كان الثمن، ولهذا، فانه ما ان ظهرت نتائج الانتخابات، والمح ترامب الى انها “مسروقة”، حتى اقتحموا مبنى الكونغرس في كانون الثاني 2021، ما اوقع عددا كبيرا من القتلى والجرحى.
وقد هزت حادثة الاقتحام هذه المجتمع الاميركي في الصميم، وزعزعت اطمئنان العديد منهم باستقرار لعبتهم السياسية، حتى لو بدت المبارزة بالمناظرة المتلفزة شكلا حضاريا وحيويا.
لكن المناظرات التي نتجت عنها التداعيات الاكثر دموية تلك اشتهرت باسم “المناظرت الكبرى” والتي جرت كسلسلة من 7 مواجهات، بين المرشح لمقعد في الكونغرس وقتها ابراهام لينكولن ومنافسه ستيفن دوغلاس في العام 1858، وتحديدا في ولاية ايلينوي. وكان للمناظرة نظامها حيث يتكلم أحد المرشحَين لمدة 60 دقيقة، ثم يتبعه رد لمدة 90 دقيقة ثم ردّ اخير مدته 30 دقيقة من المرشح الاول.
وتتابع هذا النظام في 7 مناظرات في انحاء ايلينوي، وتحولت ال ما يشبه المهرجانات الانتخابية التي يحضرها الالاف من عامة الناس، او من انصار كل طرف، وهي تجمعات سهلها انتشار خطوط السكك الحديدية، بالاضافة الى تطور الطباعة الصحف الورقية وخدمة التلغراف. والمهم ايضا في هذه المناظرات انها ساهمت في صعود شعبية لينكولن على المستوى الوطني، برغم خسارته مقعد ايلينوي، حيث فاز بعدها بترشيح الحزب الجمهوري له لانتخابات الرئاسة والتي تمكن من الفوز فيها في العام 1860.
لم يترجم اداء لينكولن القوي في المناظرات الى انتصار انتخابي على مستوى الولاية، لكنه فتح له الطريق نحو البيت الابيض بعد عامين. لكن الاخطر ان القضايا التي اثيرت خلال المناظرات ال7، اججت المشاعر الشعبية والانقسام الداخلي على مستوى الناس والولايات وعلى المستوى الوطني العام حول القضية الملتهبة المتمثلة بالعبودية، حيث كانت للينكولن مواقف معارضة لتوسيع العبودية، لكنه لم يكن يجرؤ على الحديث عن المساواة بين البيض والسود في المجتمع، حتى ان دوغلاس “اتهمه” سابقا بانه يدعو الى “تحرير العبيد” بموقفه القائل ان اعلان الاستقلال الاميركي ينطبق على السود والبيض معا.
وبكل الاحوال، فما ان فاز لينكولن بانتخابات الرئاسة حتى بدات الولايات الجنوبية الاكثر اعتمادا على العبودية، باعلان انفصالها، لتندلع حرب اهلية بين الشمال والجنوب اودت بحياة نحو 600 الف اميركي.
وبطبيعة الحال، لم يكن هناك تلفزيونات وقتها، لكن من الواضح ان الصحافة المكتوبة ساهمت في نقل وقائع المناظرات وسخونتها ونشرها في مختلف الولايات، ما قاد الى تعميم التوتر حول تلك القضية الساخنة بالاساس. الا ان التلفزيون دخل للمرة الاولى على خط معارك المناظرات الانتخابية، في العام 1960، عندما نقلت قناة “سي بي اس” الاميركية اول مناظرة متلفزة، وكانت بين الديمقراطي جون كينيدي والجمهوري ريتشارد نيكسون.
وبدا ان معايير الصراع السياسي راحت تتغير. كان نيكسون اكثر تمرسا في المناظرات الاذاعية، واكثر خبرة في الحديث عن قضايا السياسة الخارجية، وكان بامكان ملايين الاميركيين مشاهدة ذلك من بيوتهم في انحاء الولايات المتحدة، الا ان استطلاعات الراي بعدها اظهرت تقدم كينيدي عليه. وقد عزا المحللون ذلك لاحقا الى عوامل لم تكن معهودة سابقا، وتتمثل في ان كينيدي بدا اصغر سنا وحيوية، بينما كشف التصوير التلفزيوني والاضاءة، بعض الشعر على ذقن نيكسون الذي رفض استخدام مساحيق التجميل المخصصة للظهور التلفزيوني فبدا شاحبا، وهو خطا استدركه نيكسون في المناظرات اللاحقة التي جرت مع خصمه الديمقراطي.
صحيح ان المناظرات لا ينص عليها الدستور، لكنها اصبحت وسيلة متعارف على اهميتها في المبارزة السياسية بين المتنافسين، وتساهم ربما في استمالة الناخبين المترددين او الرماديين الذين لا ينتمون حزبيا او فكريا، الى اي من المعسكرين المتنافسين، وهم عادة الشريحة الوازنة التي بامكانها قلب الصورة وترجيح كفة الميزان.
وعلى سبيل المثال، فان مناظرة كينيدي-نيكسون الاولى، استقطبت اكثر من 66 مليون مشاهد، وهو رقم لا يستهان به لانه كان يمثل وقتها نحو ثلث عدد سكان الولايات المتحدة. لكن عددا قياسيا شاهد المناظرة الاولى بين الجمهوري ترامب والديمقراطية هيلاري كلينتون في العام 2016، حيث شاهدها تلفزيونيا، 84 مليون شخص.
ومع ذلك، من المعتقد ان السياسي الاميركي ويندل ويلكي كان اول مرشح رئاسي يعرض فكرة المناظرة وجها لوجه مع خصمه المحتمل وقتها فرانكلين روزفلت، في اربعينيات القرن الماضي. ولم يقبل روزفلت الفكرة. كما جرت محاولة لتنظيم مناظرة بين المرشحين الجمهوري دوايت ايزنهاور والديمقراطي ادلاي ستيفنسون في العام 1956، ولم يكتب لها التحقق ايضا، الى ان قادت الامور الى انجاز مناظرة كينيدي-نيكسون العام 1960.
ولم تعد المناظرات الرئاسية تقتصر على الولايات المتحدة، واصبحت بمثابة عرف سياسي قائم في فرنسا وبريطانيا وايران والمانيا وغيرها.
واذا كان الهدف الاساسي من المناظرات طرح الافكار الرؤى المتنافسة، الا ان التوق الى السلطة والفوز بها، يدفع المتناظرين احيانا كثيرة، الى اسلوب التجريح الشخصي. خلال مناظرة العام 2020، توجه بايدن الى ترامب قائلا “هلا تخرس يا رجل”، ووصفه بانه “كذاب ومهرج” قبل ان يصفه بانه “اسوا رئيس في تاريخ الولايات المتحدة”. الرئيس الجمهوري وقتها وصف خصمه بايدن بانه “دمية، ولا يمت الى الذكاء بصلة”.
نظام الديمقراطية الاميركية ليس باحسن احواله. وقد كشف ذلك ايضا المناظرة التي شاءت الاقدار ان يخوضها الرجلان مجددا في حزيران الماضي، وهي المرة الاولى التي تجري فيها مناظرة بين رئيس حالي ورئيس سابق، والاولى ايضا بلا جمهور وصحافيين. لكن هذه المناظرة ربما دقت نواقيس الخطر، لا في كواليس الحزب الديمقراطي وبين جمهوره فحسب، وانما ايضا في اروقة المؤسسات السياسية والشعبية في الولايات المتحدة عموما.
حزبان يفترض انهما عريقان، ولها قواعد شعبية ومالية واعلامية متجذرة، لكن افضل ما لديهما قدماه في تلك المناظرة. الديمقراطيون اعادوا الدفع ببايدن وهو في عمر ال82، ويعاني كما يقول مراقبون من ظواهر خرف، الى السباق الانتخابي مجددا، بينما صعد في مقابله رئيس سابق ملاحق بالعشرات من القضايا امام المحاكم والمشتبه بنزاهة سلوكه والاعيبه المالية والسياسية والاجتماعية.
“انت مجرم مدان… انت فاشل. لقد مارست الجنس مع نجمة اباحية عندما كانت زوجتك حاملا”. هذا بعض مما تفوه به بايدن للتشهير بخصمه، في صورة تعكس تعارضا هائلا مع مستوى مناظرة كينيدي-نيكسون قبل اكثر من 60 عاما.
كتب الصحافي الاميركي المرموق سيمور هيرش بعد مناظرة بايدن-ترامب الاخيرة، ان الحزب الديمقراطي الحاكم يواجه “ازمة امن قومي حيث يدعم البلد حربين مدمرتين.. ربما حان الوقت بالنسبة له (لبايدن) الاعداد لخطاب استقالة مماثل للخطاب الذي القاه (الرئيس الاسبق) ليندون جونسون في العام 1968”.
لم يكن سيمور هيرش وحده من دعا الى استقالة بايدن. هناك اصوات تعالت داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وبين ناخبي الحزب بعدما شاهدوا الاداء الهزيل للرئيس المترنح امام ترامب. وفي مجلة “ذا اتلانتيك” كتب ادم سيروير قائلا “على جو بايدن الاستقالة من الرئاسة. الشخص الاخير الذي فعل ذلك كان ريتشارد نيكسون الذي غادر منصبه مكللا بالعار بعدما اساء استخدام سلطاته، وقاد الاعتداء على الديمقراطية الاميركية، وعلى بايدن ان الاستقالة للسبب المعاكس: منح الديمقراطية الاميركية فرصتها الافضل للنجاة”.
قبل 10 اعوام من سقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن احد يتوقع ذلك. لا يتحدث كثيرون عن احتمال سقوط “الامبراطورية” الاميركية قريبا، لكن كثيرين حتى من داخل النظام الاميركي نفسه، يحذرون من الشروخ الاجتماعية والسياسية المتزايدة، ومن علل في المؤسسات نفسها، ومن صعود قوى عالمية بديلة، ومن تراجع هيمنة الدولار الاميركي، ومن هزالة الحزبين الحاكمين اللذين لم يخرجا مرشحين افضل حالا من ثنائية بايدن-ترامب، وانتجا مثل هذه المناظرة السياسية المشينة التي فتحت النقاش علانية حول امكانية وجود مرشح ديقراطي البديل.
ستترك هذه المناظرة اثارها على المناخ السياسي وربما يعتبرها العديد من المراقبين نقطة تحول. ومثلما جرى في العام 1960 عندما مال الناخبون نحو كينيدي الاكثر شبابا وحيوية، سجلت مناظرة العام 1976 بين الجمهوري جيرالد فورد والديمقراطي جيمي كارتر، انتصارا لسبب اخر بالنسبة لكارتر، بعد الموقف السياسي او السقطة المثيرة للجدل التي ارتكبها فورد بقوله انه سيمنع الاتحاد السوفيتي من الهيمنة على اوروبا الشرقية، في وقت كانت موسكو تبسط سيطرتها فعليا على شرق اوروبا.
“شكل” المرشح وهيئته الخارجية عادت لتلعب دورا في حسم المناظرة، وذلك استنادا لما جرى في العام 1992، عندما ظهر الديمقراطي بيل كلينتون اكثر شبابا وحيوية من جورج بوش الاب الذي خسر في نهاية المطال فرصته لولاية ثانية. وجدير بالذكر ان تلك المناظرة جمعت للمرة الاولى 3 مرشحين هم كلينتون وبوش الاب والمرشح المستقل روس بيرو.
الشكل والاداء والسلوك اثناء المناظرة لم يخدم المرشح الديمقراطي ال غور عندما واجه المرشح الجمهوري جورج بوش الابن في العام 2000، حيث من المعتقد ان العديد من المشاهدين استاءوا من تصرفات ال غور الذي تنهد بصوت مسموع عدة مرات بينما كان منافسه يتحدث، وبدا ذلك بمثابة سلوك متكبر عززه اسلوب حديث المرشح الديمقراطي كالعارف والفاهم لكل شيء فحيث ان بعض المعلقين وصفوه بانها كان يتصرف ك”محاضر”.
https://www.general-security.gov.lb/uploads/articles/09131.pdf