الرئيسية » افتتاحية » يد إسرائيل المرتجفة في أصفهان

يد إسرائيل المرتجفة في أصفهان

عمّقت ليلة الصفعات الإيرانية من الجرح الإسرائيلي الغائر منذ 7 أكتوبر. ومثلما هزّت انتفاضة “طوفان الأقصى” الكيان، فإن ليلة الصواريخ والمسيّرات الإيرانية في 13 نيسان/أبريل، فعلت فعلها، بعدما أبقت مستوطني فلسطين المحتلة، تحت رحمة الترقّب والقلق والانتظار.

هذه هي الحقيقة الثابتة الآن، وبالتأكيد فإن “هجوم أصفهان الغامض” الذي نسب إلى إسرائيل، لم يبدّل في هذا المشهد، ولم يظهر بعده أن ثقة الإيرانيين بنجاحهم في إعادة ضبط قواعد الإشتباك وفق معادلات جديدة، قد اهتزت.

الحقيقة الناصعة الآن، أن إيران للمرة الأولى في تاريخها، تبادر إلى مهاجمة الكيان الإسرائيلي بشكل مباشر، ثم تتباهى بثقة بأنها وجّهت جزءًا ضئيلًا جدًا من قدراتها العسكرية تجاهه، بل إنها أصابت ما أرادت تحديدًا: قاعدتي نيفاتيم ورامون، على الرغم من أن مشهد الأضواء المتلألئة كانفجارات في سماء فلسطين في تلك الليلة التاريخية، أغرى كثيرين للوقوع في فخ التنظير العسكري المضلّل بأن الهجوم الإيراني هدفه خوض معركة تدمير كبرى للكيان الإسرائيلي.

وبرغم “محدودية” الرد الإيراني على غارة حي المزة الدمشقي، إلا أن ذلك لم يقلّل من شأن خطورة “الصفعة الإيرانية” التي مزّقت قواعد اللعبة القائمة، من دون أن تسقطها بالضربة القاضية. فبينما أظهرت الضربات الإيرانية، أن لصبر طهران حدوده، وأن الأخيرة قادرة عل الخروج بحكمة من “حذرها الاستراتيجي”، وأن هجومها المهندس عسكريًا، تطلّب انخراط 3 دول كبرى لمحاولة إجهاضه، فإن إسرائيل بدت في المقابل، أعجز من التعامل معه لوحدها، والأهم أنها ظهرت أعجز من أن “تنتقم” لنفسها بجرأة سعت طوال أكثر من 70 سنة، أن ترسّخها في مواجهة أهل الأرض الأصليين وشعوب المنطقة.

وبينما تصرّفت طهران بثقة مطلقة ولم ترتجف يداها وهي تطلق صواريخها ومسيّراتها باتجاه الكيان المحتل، وأرفقتها ببيانات تؤكّد مسؤوليتها، ووزّعت صور لقادتها العسكريين في غرفة العمليات وهم يعطون الأوامر بالهجوم، وأعادت نشر تغريدة مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي باللغة العبرية بأنها ستنّتقم بلا شك على غارة سوريا، فان إسرائيل لم تجرؤ لا على إعلان مسؤوليتها عمّا جرى في أصفهان تحت جنح الظلام، ولم توضح فعليًا ما قامت به، واكتفت بتسريب معلومات شحيحة ومتفرّقة في وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية، لطمأنة جمهورها، بأنها امتلكت ما يكفي من الجرأة وحزمت أمرها، ثم نفّذت “ردّها” الذي سخر منه، عن حق، وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بقوله لشبكة “إن بي سي نيوز” الأميركية، إن “ما حدث لم يكن ضربة.. المسيّرات التي استخدمت في استهداف إيران كانت أشبه بالدمى التي يلعب بها أطفالنا وليست طائرات مسيّرة”.

ماذا يعني كل ذلك؟

أولًا، وقبل كل شيء، فإن “الرد الإسرائيلي” على إيران، بدا مثيرًا للسخرية. تجرّع الإسرائيليون “الكأس المسمومة”. الوزير المتطرّف إيتمار بن غفير وصفه بأنه “سخيف”. ولهذا، فإن المعنى الأكبر يتمثّل في أن إسرائيل، بصفتها القاعدة العسكرية الغربية المزروعة في قلب غرب آسيا، بترسانتها الحربية الأكبر في المنطقة، برغم الجنون الذي تسلّحت به فيما بعد “طوفان الاقصى”، أخضعت أمام التهديد الإيراني.

وبدا “الرد الإسرائيلي” أصغر من أن يثير قلق الإيرانيين أو حتى العواصم الإقليمية التي تدرك تمامًا عمق ما جرى في 13 نيسان/أبريل، وكانت تتحسّب لزلزال من جانب الكيان الاحتلالي. وبرغم رمزية أصفهان، باعتبار أن مفاعل نتانز النووي يقع فيها، فإن بنيامين نتنياهو الذي رفع طوال العقدين الماضيين لواء الفارس الشجاع الذي لم ير خطرًا عالميًا سوى في إيران وبرنامجها النووي، وأنه عازم على تدميرهما عندما تسنح له الفرصة، تصرّف كفأر جبان. من كان يتصوّر، أن يوجه أي طرف ركلة لإسرائيل كالتي شهدناها في سماء المنطقة برمتها، فيكتفي نتنياهو وعصابته بالاحتماء في حفرة القيادة “الكرياه” تحت الأرض.

وبدا أيضًا أن البرنامج النووي الإيراني، السلمي الطابع وفق تأكيدات الأمم المتحدة، هو في الوقت نفسه بمثابة سلاح فعال في حوزة الإيرانيين. تهديد طهران الواضح، بأنها وكإحدى الخيارات أمامها، قد تعيد النظر في “عقيدتها وسياساتها النووية” في حال تعرّضت لهجوم إسرائيلي كبير، يعني أن فتوى آية الله خامنئي بحرمة صناعة قنبلة نووية، قد تلغى، وأن زمن الابتزاز الغربي لإيران حول مشروعها النووي، سيطوى نهائيًا.

وإذا كان “طوفان الأقصى” زعزع ثقة الإسرائيليين بنظامهم الاحتلالي، وأن عملية “الوعد الحق” الإيرانية، عزّزت هذا الجرح الغائر في نفسية الإسرائيليين، فإن “عملية أصفهان” لم ترمّم نظرة الردع الاسرائيلية. اختار الإيرانيون أن يقولوا في لحظتهم المناسبة أن الكيل قد طفح، وعلى إسرائيل أن تتلقى صفعة.

صحيح أن قواعد الاشتباك القائمة منذ سنوات لم تسقط بالكامل، لكنها بعد غارة حي المزة ثم الركلة الإيرانية، تعاد كتابتها، وبشروط قد تكون خطيرة، ذلك أن إسرائيل هذه المرة تبدو كمن فقد الإحساس بأمان فكرة “الدولة اليهودية الآمنة” التي على أساسها جرى اغتصاب أرض فلسطين.

إن إيران هي من أعادت تثبيت التوازن، ولو مؤقتًا، بانتظار تبلور قواعد الاشتباك الجديدة. وقد وجّه الإيرانيون رسائل التهديد الأميركي المبطن والعلني، بألا يقدموا على هذه الخطوة، ومتجاهلين في الوقت نفسه، تصريحات التهويل من قبل قادة إسرائيل.

والآن، لن يجرؤ الإسرائيلي على المساس بأمن إيران بشكل مباشر وفظ، أقله في المدى المنظور، إذ قد تكون عواقب ذلك أكبر من أن تتحمّلها إسرائيل والغرب. فإذا كانت ليلة 13 نيسان/أبريل، أظهرت أن بإمكان ترسانة صغيرة من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية أن تضع المنطقة على حافة الهاوية، حتى برغم تشكّل الملامح الأولى لـ “تحالف الماكدونالدز” للدفاع عن إسرائيل بشبكة (جوية-صاروخية) من رعاة الاحتلال وحماته.

إذن، “الرد الإسرائيلي” أخذ بالاعتبار أن ترسانة إيران الكاملة فيما لو دخلت المعركة، سنكون أمام مشهد اقليمي مختلف تمامًا. أخذ الإسرائيليون بعين الاعتبار أيضًا وهم يقومون بعملية أصفهان الغامضة حتى الآن، بأن أطراف “محور المقاومة” كانت احترمت حق الإيرانيين ورغبتهم بأن يتولوا وحدهم هندسة انتقامهم، وبالتالي كيف سيكون الحال، لو أن الرد الإسرائيلي كان أكثر وقاحة وجرأة، وانخرطت قوى “محور المقاومة” إلى جانب إيران في الرد؟

في المرة القادمة التي سيجلس فيها مخططو الحرب في إسرائيل، للتآمر من أجل استهداف ايران، سيكونون مضطرين للتفكير ألف مرة قبل إعطاء الضوء الأخضر. الحسابات تبدّلت على ما يبدو. ارتجاف الإصبع الإسرائيلي على الزناد، كان واضحًا. وربما تحاول إسرائيل أن تظهر لاحقًا أن الهجوم الإيراني لم يردعها لكنها قد تظل تفتقر الى جرأة الانتقام العلني، وقد تلجأ إلى هندسة عمل إرهابي داخلي، من خلال عملاء ينفذون انفجارًا أو اغتيالًا، يكون مبهمًا، لكنه يوصل رسالة واضحة للإيرانيين، بأن إسرائيل لم تخشاكم وبأنها “انتقمت”. وقد يكون شكل الرد الإسرائيلي المقبل، على شكل استهداف كبير يقع في سوريا أو العراق مثلًا –أو بلد آخر- لكنه لا يصل إلى مقام ضرب مقرها الدبلوماسي مثلما جرى في 1 نيسان/أبريل.

وستكون واشنطن معنية خلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة، بمراقبة سلوك “حليفتها” وأداء دور “ضابط الإيقاع”، مع احتدام أجواء المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة، وهو ما قد يقيّد يدي نتنياهو قليلًا، لكن لن يحول دون انغماسه أكثر في الدم الفلسطيني، وخصوصًا في رفح. وقد روّج الاعلام الإسرائيلي بالفعل إلى نظريات المكاسب التي جنتها إسرائيل، من كظم غيظها إزاء إيران، سواء بفيتو إعاقة إعلان الدولة الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي، أو صفقة المساعدات المالية الجديدة لتل أبيب، أو الحصول على تفهم أكبر من جانب إدارة جو بايدن لغزوة رفح.

وبكل الأحوال، يقول الدكتور حسين الموسوي المتحدث الرسمي بإسم حركة النجباء العراقية لموقع The Cradle إنه “ليس من المستغرب من الولايات المتحدة أن تساند إسرائيل وتدافع عنها بغض النظر عن تجاوزها على الأعراف الدولية وهذا الأمر بدون شك يحرج الحكومة العراقية الساعية إلى اتخاذ موقف واضح من التواجد العسكري الأميركي في العراق”.

والآن يدرك الإسرائيليون أن عدوانًا مقبلًا أكثر وقاحة، لن يمر مرور الكرام. هناك “حرب دولية-إقليمية مصغّرة” جارية، وهي تارة ما بين الاشتعال وتارة أخرى بين التهدئة، بينما “مشكلة حماس” وحدها لم تتمكّن منذ 7 شهور (وربما الأدق منذ 20 سنة) من حسمها. الثابت أن العالم تغيّر بعد ليلة الصفعة الإيرانية، لا بعد ليلة هجوم اليد المرتجفة ضد أصفهان. 

المقال منشور بالانكليزية

على موقع The Cradle

https://thecradle.co/articles/the-isfahan-incident-a-nail-in-israels-coffin

عن خليل حرب

خليل حرب، صحافي لبناني، مدير تحرير في جريدة "السفير" سابقا. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير موقع "جورنال".