حلف شمال الأطلسي في الأردن. لا التوقيت يبدو بريئًا، ولا الظروف الإقليمية المأزومة توحي بأن القرار خطوة تعاون عادية. “الناتو” خلق خرابين كبيرين في الأعوام الماضية: ليبيا، وأوكرانيا. أما دوله فقد ساهمت في خراب أوسع نطاقًا، في سوريا واليمن وأفغانستان والسودان وقبلها يوغوسلافيا، واللائحة تطول.
الموقع الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي في غرب آسيا
تموضع “الناتو” الآن في قلب غرب آسيا، وفي الأردن تحديدًا، وسط العناصر الملتهبة في العراق وسوريا وفلسطين المحتلة، بالرغم من التمركز العسكري الأميركي والغربي المكثّف منذ سنوات في المملكة الهاشمية، وفي بعض أنحاء سوريا، والعراق، والانخراط الوقح في الحرب على غزة، يعني أن هناك من يتأهب لانفجار أو حرب كبرى، أو يريد “ردعها”، كما يقول خبراء ومحلّلون لموقع The Cradle.
صحيح أن وزارة الخارجية الأردنية حرصت على إبراز فكرة أن قرار افتتاح مكتب اتصال لـ”الناتو” في الأردن، “كان قد تم الإعلان عن النية لإنشائه في البيان الختامي لقمة الناتو في ليتوانيا في تموز/يوليو العام 2023″، أي قبل معركة “طوفان الأقصى”، وهي فقرة تشير ضمنيًا إلى أن حكومة عمان تحاول عزل الخطوة عن حرب غزة، الجارية على مرمى حجر منها، والتي تضع المملكة تحت وطأة تحديات قل نظيرها.
لكن المراقبين عمومًا، بما في ذلك محلّلون أردنيون، لم يكن بوسعهم فصل تسلّل “الناتو” إلى جحيم المنطقة، عن الاشتباك الإقليمي الواسع الذي جرى في سماء الأردن قبل 3 شهور، عندما قرّرت إيران الرد على الاعتداء الإسرائيلي على مبنى قنصليتها في دمشق، بإطلاق وابل من الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه الكيان الإسرائيلي، فإذا بسماء الأردن تتحوّل إلى حائط صد أميركي-بريطاني-إسرائيلي-فرنسي-أردني، لاعتراض الهجوم الإيراني ومحاولة إحباطه.
اللافت كما يقول مصدر مقرّب من “محور المقاومة” في بيروت لموقع The Cradle إن المملكة الأردنية لا تبدو بحاجة إلى أي دور لحلف “الناتو”، فهي شبه مطوّقة، ومحمية، بالكامل مع القوات العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية، سواء من داخل أراضيها، أو حتى على حدودها، من الجهة الشرقية مع العراق، ومن الجهة الشمالية مع سوريا، ومن الجهة الغربية من إسرائيل نفسها، ومن الجهة الجنوبية مع السعودية. وحتى قبل اندلاع حرب غزة، كان هناك نحو 3 آلاف عسكري أميركي في الأردن، خصوصًا في “قاعدة موفق السلطي الجوية” وفي موقع “البرج 22” وفي ميناء العقبة، ومراكز أخرى غير معلن عنها، ناهيك عن التمركز العسكري الأميركي-الغربي الذي تنامى في البحر الأحمر وخليج العقبة في إطار عملية “حارس الازدهار”.
مقدمة للاضطرابات الإقليمية
وبهذا المعنى، فإن الأكثر خطورة، هو أن “مكتب الناتو” يبدو خطوة ولو أولى باتجاه انخراط أخطر التحالفات العسكرية في العالم، في قلب صراعات المنطقة، أو التحسب من حرب كبرى. وكما يقول الخبير الاستراتيجي والمحلّل السياسي الأردني، منذر الحوارات لموقع The Cradle فإن “الأردن يرغب بتعزيز علاقة شراكة دبلوماسية تحسبًا للتطورات في المنطقة وأيضًا يطمح الى دعم من الناتو في عمليات لوجستية كثيرة، لكن لماذا في هذا الوقت؟ أنا باعتقادي أنه هناك احتمالية لتطورات خطيرة والمخاوف تتصاعد من حدوث حرب إقليمية كبرى إذا ما حدثت مواجهة بين دولة الاحتلال وحزب الله وبالتالي يمكن أن تتدحرج باتجاه صراع إقليمي كبير”.
منذر الحوارات يعتبر أنه في ظل احتمال تدخل إيران في هذا الصراع، فإن “الأردن منطقة مستهدفة في العمليات العسكرية مستقبليًا لو حدثت، وبالتالي الناتو يريد أن يقيم شكلًا ما من الردع”.
والمشهد أكثر اتساعًا من الأردن. يقول الحوارات إن “الرسالة الكبرى الواضحة والعريضة التي يريد أن يرسلها الناتو أنه نحن هنا، وأي صراع كبير في المنطقة سيكون الناتو كحلف جزء منه ولن يتخلى عن المنطقة لأي طرف سواء كان إيران أو روسيا أو حتى الصين. وبالتالي وجوده في هذا الموقع والبؤرة الإستراتيجية يؤكّد على أن الحلف لا يزال مهتما بمنطقة الشرق الأوسط ولا يزال يراها بؤرة للصراعات الإقليمية التي قد تذهب باتجاه صراع دولي”، مضيفًا أنه “في حال ذهبت الأمور باتجاه مواجهة عسكرية، سيكون الناتو فاعلًا بهذا الصراع فبالتالي سيقف في مواجهة أي تحدي عسكري تمارسه أي جهة إقليمية، غير إسرائيل طبعًا”.
تطوير العلاقات مع عمّان
كما قالت أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية ليلى نقولا لموقع The Cradle، إن “افتتاح المكتب في الأردن لا يعني أن الأردن قد بات بحماية حلف الناتو أو أنه يتساوى مع أعضاء الحلف من ناحية تطبيق الدفاع المشترك والتي تلحظها المادة 5 من معاهدة الحلف، بل إن المكتب يعكس العلاقة المتقدّمة للحلف مع الأردن، بالإضافة إلى رؤية الحلف لموقعه في الشرق الأوسط، تحديدًا لجهة إبقاء موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط، وليس فتح جبهات جديدة”.
وبحسب الدكتورة نقولا، فإن البيان الذي أعلنه الحلف حول أهداف المكتب في الأردن يشير الى أن الحلف “لا يرى في منطقة الشرق الأوسط منطقة عمليات جديدة بل إن الحلف منذ بدء حرب أوكرانيا يرى الأولوية للتهديدات المتأتية عن الحرب الاوكرانية الروسية، وتنامي نفوذ الصين العالمي”.
ومع ذلك، تؤكّد نقولا أن “أهمية الأردن تأتي في هذا الإطار لسببين، موقعها الجغرافي كبلد مجاور لكل من سوريا وإسرائيل (التي يعني أمنها الكثير لأعضاء الحلف)، بالإضافة إلى إقرار من قبل حلف الناتو بأهمية الأردن في حفظ أمن إسرائيل، وهو ما عكسته مشاركته في ردّ الصواريخ والمسيّرات الايرانية خلال الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق”.
فكرة الصراع الإقليمي-الدولي تتقاطع مع كلام الصحافية الأردنية رانية الجعبري لموقع The Cradle، والتي لفتت إلى أن مبادرة “الناتو”، “خطوة إضافية كجزء من الصراع المرتبط قيام عالم متعدد الأقطاب، بدأ من سوريا، ومتصل بحرب غزة الحالية، وبالعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ومستمر وممتد إلى المنطقة ليس فقط من خلال حرب غزة، وإنما في الصراع الكبير بين ما يسمى إسرائيل، وحزب الله وأنصار الله في اليمن وسوريا”.
وتقول الجعبري، إنه “إذا أدركنا أن إسرائيل مجرّد حاملة طائرة أميركية في منطقتنا، سنفهم أن الناتو بحاجة ليثبت أركانه في منطقتنا بأشكال عديدة، خلال مواجهته قيام نظام عالم متعدّد الأقطاب، وقد لا يقتصر الأمر على إنشاء مكتب للناتو في عمّان، وإن فاعلية هذا المكتب في قادم الأيام على المحك ما دام نظام القطب الواحد يتراجع في العالم”.
من جانبه، اعتبر منذر الحوارات أن “الناتو يعلن عن ميزان جديد للقوة وميزان للردع وميزان لضمان الاستقرار في إطار حدود معينة من التوازنات وقواعد الاشتباك بالمنطقة والتي لا يجب أن تتجاوز حدود الحرب الإقليمية، بما له من قوة عسكرية هائلة وإمكانيات كبيرة وقدرة على التدخل لوجستيًا وعسكريًا بطريقة فعالة وبطريقة مؤثّرة ضد أي طرف يراه عدوًا”.
يخلص الحوارات في تفسيره للخطوة “الأردنية-الأطلسية” بالقول إنها “تأتي في سياق استراتيجية طويلة المدى حيث كان الأردن جزءًا من تحالفات الناتو ولكن الآن يبدو أن هناك عملية تثبيت لهذا التحالف بشكل مؤسّساتي وهذا يعتمد على استقرار الأردن في منطقة متقلّبة وفيها صراعات كثيرة”، مشيرًا في هذا الإطار إلى “المنطقة الملتهبة بالصراعات حيث يتوسّط الأردن دولة الاحتلال والسعودية وأيضًا سوريا والعراق”، بالإضافة إلى أن “الأردن على تماس بحدوده مع العديد من التنظيمات، حوالى 72 تنظيمًا، يتواجدون على الحدود الشمالية للأردن والجنوبية لسوريا” حيث من الممكن ان تتدخّل ايران من خلالهم.
تمهيد الطريق لـ”الناتو العربي الإسرائيلي“
الأمين العام لـ “الناتو” يانس ستولتنبرغ كان أعلن الخميس الماضي عن افتتاح المكتب، على هامش قمة الحلف التي انعقدت في واشنطن، قائلًا “الأردن يعتبر شريكًا طويل الأمد وذا قيمة عالية بالنسبة لحلف الناتو”، لافتًا إلى أن مكتب ارتباط الحلف في عمان سيرفع الشراكة الثنائية إلى مستوى جديد، مشيرًا إلى أن الحلف يعمل بشكل أوثق مع شركائه في المنطقة، بما في ذلك الأردن، وأن لدى الحلف شركاء مثل العراق، وتونس، وموريتانيا، ودول جوار البحر المتوسط، إلى جانب دول الخليج.
لكن مكانة الأردن وموقعه ودوره المنشود، مختلفين عن الشركاء الآخرين.
وبكل الأحوال، تقول مصادر دبلوماسية في بيروت إن مكتب “الناتو” ليس مفاجئًا، ذلك أن الأردن يحتفظ بالفعل بعلاقات استنثائية مع الدول المنضوية في هذا التحالف العسكري الغربي الذي يدرك اهمية الموقع الجغرافي للمملكة، وطبيعة الأدوار التي بإمكان النظام الملكي الأردني أن يوفرها، إلا أن المخاوف تحديدًا تتعلّق بما يمكن أن يجري في فلسطين المحتلة مع تزايد المحاولات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين، لا من غزة فقط، وإنما من الضفة الغربية ومنطقة غور الأردن، باتجاه المملكة. وتتساءل هذه المصادر عن معنى العبارة الواردة في بيان الحلف حول “اعتماد خطة عمل لتعزيز نهج التعاون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمواكبة تطورات المشهد الأمني الإقليمي والعالمي”. كما تتساءل المصادر عن مغزى ورود عبارة تتعلّق بـ “التخطيط لحالات الطوارئ … وإدارة الأزمات والدفاع المدني”.
وبمعنى آخر، التساؤلات تبدو مشروعة عن أي دعم لوجستي ستكون المملكة بحاجة إليه؟ ومن أجل احتواء أي حالة طارئة؟ وأي إدارة ؟ وأي أزمة مدنية؟ فهل يعد المسرح الإقليمي بالفعل للحرب الكبرى، طالما أن إسرائيل لم توقف إبادتها، وتلوح بإشعال جبهة الشمال مع لبنان عندما تتهيأ لها الظروف داخليًا وإقليميًا؟ وهل وجد الملك عبدالله أخيرًا ضالته التي نادى بها منذ سنوات، لإقامة “ناتو عربي” (أو شرق أوسطي بضم إسرائيل إليه)، بعدما تخوّف علنًا منذ 20 سنة من “الهلال الشيعي”، فهل سيكون “مكتب الاتصال” في هذه اللحظة مجرّد خطوة إضافية على على طريق الخراب العظيم؟
المقال منشور باللغة
الانكليزية على موقع
The Cradle
https://thecradle.co/articles/jordans-quagmire-nato-sets-up-shop-in-amman