ليس من السهل فهم هؤلاء الذين كسروا جدران الحصار الاسمنتي والاسلاك الشائكة الالكترونية التي تطوق حياتهم، وحياة عوائلهم، وتحاصر حليب اطفالهم ودوائهم ولقمة عيشهم، ويصفهم وزير حرب العدو غالانت اليوم بانهم “حيوانات”.
ولن يكون سهلا أمام أي متابع فهم كيف يمكن لبضعة شبان، معبئين، مؤدلجين، حانقين، مؤمنين.. (سمهم ما شئت)، ان يخرجوا فجرا، هكذا كطيور تشرينية مهاجرة بالمئات بكل بساطة، لكتابة موتهم، او إرتقائهم. ما من واحد فيهم، إمتشق سلاحه وكلف بمهمة بإطار “طوفان الاقصى”، تصور نفسه، عائدا الى غزة، (السجن الاكبر في العالم)، ليكتب مذكراته.
الموت هنا، بمفهومنا العام، والاستشهاد بفهوم هؤلاء جميعا، هو النتيجة الحتمية لمثل هذا العمل، في مواجهة قوة عسكرية توصف بانها من بين الاقوى في العالم، ويقتضي، الوصول الى “مناطقها” (والعودة لو قدر لهم)، عبور مساحات مفتوحة ومكشوفة. لكن الاكثر غرابة، ان يظن البعض ان مثل هذا الفعل العسكري المقاوم الذي لا مثيل له في مواجهة، بهذا الحجم والاهداف، ضد دولة الاحتلال النافرة القائمة في العالم، سيقود الى اقتحام وسيطرة وبقاء. اذ لا يمكن لقوة عسكرية مهما علا شأن تدريبها وإستعدادها للتضحية، ان تنجح في “الاحتفاظ” ببقعة جغرافية، لا جبال ولا غابات او أدغال او تضاريس صخرية فيها لفترة طويلة، خصوصا مع تفوق عدوك جويا.
ولهذا، من الصعب على كثيرين فهم “الفلسطيني”. وتحديدا هذا الفلسطيني الذي راكم غضبه، وخطط، وثابر، وخرج الى موته الحتمي. 75 سنة من الانتظارات وانتفاضات الحجارة المتتالية، والاهم القهر. هؤلاء شبان، غالبيتهم بالتأكيد شاهدت بسن مبكرة معجزتي العام 2000: التقهقر الاسرائيلي من غالبية الجنوب اللبناني، ثم جرأة شبان وشابات فلسطين في الانتفاضة الثانية. هؤلاء شاهدوا أيضا، كيف جاء أنصار عدوهم، ليحرقوا بغداد ويهددوا دمشق وبيروت وطهران…… وشاهدوا أيضا بسالة شبان، مثلهم، في وجه نفس عدوهم في تموز 2006. هؤلاء شبان لم تكسر الهزائم ظهورهم.
المهم ان أحدا، ما كان يجب ان يتصور ان على الفلسطيني ان يقف في طوابير انتظار الموت. هناك، منهم، من يجب ان يخرج لمحاولة كتابة الحياة، ولو لابنائه. فكروا جيدا في هذه الاحتمالات، ولماذا يتحتم عليه، على اي انسان، ان يرى طفله يموت بطلقة، او يخرجه اشلاء من تحت الركام، او تركل أمه ويداس على رأسها، وان يرى شقيقه العريس مضرجا بدمائه، ويرى بيته يهدم مرات ومرات.
من غير الممكن فهم مشهد “طوفان الاقصى”، أو التجرؤ على التحليل السياسي، من دون فهم تفاصيل هذه المشاعر، تماما مثلما انه من الصعب تصور ان يترك الفلسطيني لينزف وحده للمرة الالف، وانه لذلك، لهذا السبب بالذات، كانت معادلة “وحدة الجبهات” تتبلور. بالدم، بالمعاناة، بالنكسات، بالمثابرة، بالانسانية، وبالرؤية والصبر.
ان هذه المعادلة التي أنتجت أكبر اختراق أمني لجبهة العدو، او ما يحلو للاميركيين وصفها ب “11 ايلول الاسرائيلية” (ربما لتعميم التبرير بما سترتكبه اسرائيل من جرائم باسمها انتقاما)، هي التي يجري اختبارها الان في غزة وغلافها، وهو تماما السبب الذي جعل ادارتي جو بايدن وايمانويل ماكرون تتحركان منذ الساعات الاولى لجس النبض الاقليمي (والتحذير ايضا) من احتمالات دخول لاعبين جدد، الى “المعركة”، سواء من لبنان او سوريا او العراق او ايران او اليمن.
“الارشيف القومي الاسرائيلي” كشف مؤخرا ان اسرائيل خسرت في “حرب اكتوبر” العام 1973، بمواجهة عدة جيوش عربية، 2656 قتيلا و7250 جريحا، خلال معارك شاسعة الجبهات والاسلحة الجوية والبرية والبحرية والصاروخية. هناك نحو الف قتيل اسرائيلي حتى اللحظة في محيط غزة فقط (وربما نحو 200 أسير).
إن ما جرى زلزال حقيقي. بالمعنى السياسي والامني والعسكري، لن يستطيع العقل الاسرائيلي استيعابه، والخروج من عبئه.
كتبت صحيفة “هآرتس” بالامس ساخرة من اسم عملية “السيوف الحديدية” التي اطلقها الجييش الاسرائيلي، قائلة ان العملية في الواقع هي “عملية سقوط السراويل”. ربما لم تسقط اسرائيل بعد، لكنها انكشفت، وتسويقها لنفسها كضامنة اقليمية للمطبعين القدامى والجدد إهتز بقوة، وثقتها وغرورها وأمانها بعيون مستوطنيها، صارت في الهاوية. من يجرؤ اليوم على السكن مجددا في سديروت جنوبا او المطلة شمالا؟
من من “أعضاء” “وحدة الجبهات” لا يدرك ذلك؟ اي عاقل يظن فعلا-او يصدق- ان غزة يمكن ان تترك لوحدها طويلا؟! وفي المقابل، أي عربي هذا الذي قد ينحاز لمن يرى الفلسطيني ك”حيوان”؟!
ينشر بالتزامن مع “الافضل نيوز”