للحشد الشعبي في العراق، قصة تروى.
كيف نشأ؟ ولماذا؟ وتحت أية ظروف؟ وكم كان وزنه الحقيقي في التصدي للمخاطر والاحداث التي عصفت ببلاد الرافدين؟ لا الاعلام، عربيا أو دوليا، أنصفهم، ولا أنظمة الحكم أوفتهم حقهم، بل ان كثيرين طعنوا، او جربوا الطعن به.
لم يكن الحشد الشعبي وليد الصدفة، ولا وليد القرار السياسي، ولا الحزبي. فعندما كانت عصابات الارهاب تداهم القرى والمدن وتحفر المقابر الجماعية، كان على الناجين ان يدافعوا عن أنفسهم. الحشد الشعبي، هو التجلي الطبيعي للنفس البشرية وهي تتمسك بالحياة، ثم تقرر أن تقاوم.
هل كان هناك خيار آخر امام العراقيين، بخلاف النجاة؟ والدفاع عن حقهم في البقاء؟ هل كان التخلص من خطر الابادة عملا مشروعا؟ هل بامكان أحد- أو من حق أحد- أن يطلب من العراقي الاستسلام للقتلة؟ هل كان من المحتم ان يطلب من العراق الموت ألف مرة ومرة؟
في تلك الايام السوداء من اواخر العام 2013 وبدايات العام 2014، كانت البلاد لم تكد تهنأ بخروج غالبية قوات الاحتلال الاميركي بقرار من ادارة باراك اوباما في العام 2011. غير ن التعبئة والتحريض والتمويل والتسليح، كان يجري على قدم وساق، من اجل اشعال النار العراقية، وذلك بالتزامن مع حملات تجييش لافتة للنظر في وسائل الاعلام العربية الشديدة السطوة والانتشار. وكان الشعار واضحا: تأجيج التوتر السني-الشيعي.
ولهذا، يعتبر العام 2014 تاريخا مفصليا من حيث سقوط المناطق العراقية بيد تنظيم داعش، ثم كرد فعل شعبي وعفوي اولي ثم إعلان تأسيس وانطلاق الحشد الشعبي وخوضه المواجهات من اجل البدء بتحرير المدن.
وسبق انطلاق الحشد تمدد داعش من مناطقه التي يحتلها في سوريا نحو العراق، والعمل من خلال الحدود التي فقدت الدولة السورية من جهتها السيطرة عليها. ففي تموز العام 2013 بدأ التنظيم بمهاجمة القوات العراقية والاستيلاء على الاراضي، حيث سيطر مسلحوه في كانون الاول/ديسمبر على الفلوجة وأجزاء من الرمادي.
ومع حلول كانون الثاني/يناير من العام 2014، أعلن التنظيم سيطرته على مدينة الرقة السورية وتأسيس إمارته فيها، وفي حزيران/يونيو من نفس العام سيطر على الموصل، وشن أكبر هجوم عليها، ليهجر أهلها ويرتكب جرائم القتل، وكان منها “مجزرة سبايكر” التي راح ضحيتها بحسب وزارة الصحة العراقية أكثر من 1900 شخص غالبيتهم من المجندين العسكريين. ثم ومن داخل الجامع الكبير في الموصل، ظهر زعيم الارهابيين أبو بكر البغدادي، ليعيد تسمية تنظيمه ب”الدولة الاسلامية”، وينصب نفسه “خليفة” للمسلمين.
وضمن الجرائم التي ارتكبها التنظيم، مع احتلاله مناطق سنجار ارتكب مجازر بحق الإيزيديين فيها، الى جانب المذابح بحق السنة والشيعة والمسيحيين وغيرهم، مما أدى إلى موجة نزوح كبيرة، فيما وقف العالم يتفرج طوال ايام على ما يجري، وحتى ان الالاف من الجنود الاميركيين الذين بقوا في قواعد عسكرية في العراق، لم يتلقوا اية اوامر بالتحرك او العمل.
ووسط شلالات الدم هذه والدمار المنتشر على مساحة نحو ثلث اراضي العراقي، وبينما يواصل الارهابيون زحفهم باتجاه بغداد لاقتحامها واحتلالها، ويقتربون من مدينة كربلاء والنجف متوعدين بغزوهما وتدمير مواقعهما المقدسة، بدأت الحشود، من الناس، بالاف، تتحرك بشكل طوعي وعفوي حاملة السلاح للدفاع عن بيوتها وقراها. وجرت عمليات مقاومة شعبية حتى في المناطق التي بسط داعش احتلالها عليها كما في نينوى مثلا. وكان المتطوعون من كافة الاعمار والطوائف، ومن الذكور والاناث على السواء. كانت رائحة الموت قد وصلتهم، من مناطق المقابر الجماعية التي لم تفرق بين دين او مذهب او قومية. كان خيارهم الوحيد هو المقاومة.
ولهذا، كان على الحكومة في بغداد وقتها، وهي التي تحدثت عن “خيانات كبرى” حصلت من جانب ضباط عسكريين وامنيين، تراخوا امام تقدم عصابات التكفيريين، ان تتحرك لاحتواء الدفق البشري من المتطوعين ومحاولة تنظيم صفوفهم. وكان قد بدأ الحديث عن ضرورة الاستعجال بتشكيل “جيش رديف” من الشعب. كان ذلك في اذار/مارس 2014، ثم صدرت فتوى الجهاد الكفائي للمرجعية الدينية العليا للسيد علي السيستاني في حزيران/يونيو 2014 والتي تحث كل من هو قادر على التحرك للقتال.
وأعلنت فتوى الجهاد الكفائي في كربلاء من خلال وكيل السيد السيستاني، الشيخ عبد المهدي الكربلائي عبر خطبة صلاة الجمعة، وبدأ الالاف من المقاتلين المتطوعين بالتقدم، إضافة إلى فصائل مقاومة عراقية. وأعلن عن تسجيل مليونين و500 ألف متطوع في العام 2014، توزعوا من مختلف المحافظات العراقية، ففي العام 2015 كان لمحافظة البصرة الحصة الأكبر، حيث بلغ عدد المتطوعين فيها 600 ألف متطوع وفقا لإحصائيات رسمية أعدتها الحكومة المحلية.
وفي تشرين الاول/اكتوبر من العام نفسه، هدد داعش بتنفيذ هجوم على زوار الاماكن المقدسة في النجف وكربلاء لمناسبة إحياء ذكرى عاشوراء، فأطلق “الحشد” ما اسماها “عملية عاشوراء” لاستعادة السيطرة على ناحية جرف النصر الإستراتيجية قرب بغداد من عصابات الارهابيين، ومنعهم من الوصول الى كربلاء.
وكانت مدينة تكريت، مركز محافظة صلاح الدين، قد سقطت ايضا، واعلن الحشد إطلاق المرحلة الأولى من عملية “لبيك يا رسول الله”، لتحرير كامل المنطقة. وفي آذار من العام 2015، بدأت القوات العراقية والحشد الشعبي عملية عسكرية لتحرير تكريت، لكن في أيار/مايو أعلن عن سقوط مدينة الرمادي بقبضة داعش، وهو ما تبعه عملية عراقية للجيش والحشد باسم “حملة الانبار” لتحريرها. وفي ذلك العام، عمل تنظيم داعش على نشر مقاطع فيديو لعمليات القتل التي مارسها داخل وخارج العراق، من فيديو للطيار العسكري الأردني معاذ الكساسبة وهو يحرق حياً، إلى قتل مخطوفين مصريين من الطائفة المسيحية في ليبيا واختطاف 200 آشوري من شرق سوريا. خيم على سماء المنطقة كلها مشاهد وفيديوات المذابح والتعذيب والتنكيل. ومع سقوط الرمادي، ثارت مخاوف حول خطورة أن تكون بغداد هي المدينة الثالثة بعدها، وهو ما دفع القوات العراقية والحشد إلى تأمين العاصمة عبر أربع خطوط صد تمتد من شمال العاصمة حتى محافظتي الحلة وكربلاء جنوبا.
وفي العالم 2016، أعلن عن تحرير جزيرة سامراء جنوب تكريت بالكامل، تلاها فتح الطريق الرابط بين بغداد وسامراء، ومن ثم فك الحصار عن آمرلي. كما أعلنت قوات الحشد عن مجموعة من العمليات، منها في محافظة الأنبار لتحرير مركز قضاء الكرمة، وعملية “15 شعبان” لتحرير الفلوجة، وفي تشرين الاول/اكتوبر بدأت عمليات تحرير الموصل.
وكان العام 2017، التاريخ المفصلي في العمليات العسكرية للحشد الشعبي والقوات العراقية، حيث عززت الوحدات تواجدها في محيط الموصل، من منطقة تلعفر إلى تأمين الطريق مع بغداد، ليتبعها عملية التحرير الكاملة في شهر تموز/يوليو، بعد معارك طاحنة.
في خضم العمليات الجارية من اجل تحرير الاراضي العراقية، كان الحشد يتعرض للكثير من حملات الطعن والتشكيك. قال مسؤول في دولة عربية وازنة وقتها ان تحرير العراق من الارهاب الداعشي، لن يكتمل ما لم يتم التخلص من الحشد!
كان هذا الحشد وقتها، لم يدفن كل شهدائه، وقد قدم الالاف منهم في معارك التحرير، وما يزال الى الان يقدم الشهداء والجرحى في ملاحقة فلول الجماعة الارهابية في مختلف المناطق. ولم يكن الحشد بخيلا في عطائه، وهو يحبط أخطر مشروع يستهدف سلامة العراق واستمراره منذ الاحتلال في 2003، وضرب المنطقة بأكملها، لو قدر لعصابات التكفير ان تهيمن، ولو قدر الا تكون للحشد هذه القيامة. قدم الحشد قائده الاهم ابو مهدي المهندس بعملية اغتيال غادرة نفذها الاحتلال الاميركي في بداية العام 2020، وما يزال يتلقى الضربات من المقاومة حتى الان.
قال الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مؤخرا ان المقاومة العراقية مظلومة لأنّ الإنجاز الذي حققته في إلحاق الهزيمة بالمشروع الأميركي في المنطقة لم يسلط الضوء عليه بشكل كاف.
ولم يكن من قبيل المبالغة القول انه لولا الحشد، ومقاومة العراق، لكانت داعش غزت أيضا دول الجوار عندما كان خطاب الارهابيين، المروج له، يجد صداه عند كثيرين. الم يقل كثيرون ممن ارتدوا عباءة الدين، ان خطاب داعش يمثل الاسلام! ألم يروج لداعش في الاعلام الخارجي باشكال متعددة؟ الا تنسب هزيمة داعش بشكل مستمر الى جهود “قوات التحالف” الغربية فقط؟
من المهم الاشارة الى مراكز الابحاث والراي ظلت تروج منذ ما بعد العام 2003 الى ان الغزو الاميركي خلق عراقا جديدا، لكن العديد من الاحداث التي جرت في السنوات ال20 الماضية، كشفت عن حقيقة مغايرة تماما، وهي ان الاميركيين تسببوا في اسوأ الكوارث بحياة العراقيين، وان داعش التي وقفوا يتفرجون عليها طوال شهور، وماطلوا في تنفيذ صفقات وطلبات اسلحة طلبتها بغداد، قبل ان يقرروا مهاجمتها، ربما ما كانت لتهزم لولا ان ارداة شعبية عراقية حقيقية ولدت فعليا، وتحولت لاحقا الى “الحشد الشعبي”.
وعلى المستوى القانوني، صدرت عدة قوانين لتنظيم عمل الحشد وعلاقته مع الحكومة العراقية، ففي العام 2015، أعلن مجلس الوزراء، برئاسة حيدر العبادي، إعادة تشكيل الحرس الوطني ليضم متطوعي الحشد الشعبي ومسلحي العشائر وعناصر الصحوات. وفي سنة 2016، أقر مجلس النواب العراقي قانون “هيئة الحشد الشعبي”، الذي ينص على أن قوات الحشد ستكون قوة رديفة إلى جانب القوات المسلحة العراقية وترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، حيث يتألف الحشد من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة. وبطلب من الحكومة العراقية، قام الحشد، في أواخر العام 2020، بهيكلة جديدة لقواته. وخلال العام الحالي، أعلن رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض عن الانتهاء من تعديل قانون هيئة الحشد الشعبي فيما يتعلق بالخدمة والتقاعد لأفراد الهيئة، كما أعلن عن “قبول أفراد الهيئة في الكليات العسكرية وتأسيس أكاديمية عسكرية خاصة بأبناء الحشد الشعبي أسوة بأكاديميات وزارتي الدفاع والداخلية.