في صالة عرض متحف المعدنيات في جامعة القديس يوسف في بيروت (متحف ميم)، يتربَّع مجسم الطائر الخرافي المجنح، مزهوًّا بألوانه البيضاء والزرقاء، وإلى جانبه تقبع الأحفورة التي عُثر عليها كاملةً قبل 10 سنوات في بلدة حجولا -35 كيلو مترًا، شمال العاصمة اللبنانية بيروت- والتي قادتها التجارة غير المشروعة إلى بلاد بعيدة، قبل عودتها إلى لبنان في عام 2017 وحصولها على التسمية العلمية الرسمية قبل أسبوعين من نهاية العام 2019. إذ سُمّيت ميمودكتيلوس، على شرف “متحف ميم” الذي نجح في الحصول عليها، أما الجنس فهو ليباننسيس، على شرف لبنان، البلد الذي اكتُشفت فيه.
زيارة المتحف تشبه رحلةً إلى باطن الأرض، حيث الجمال والدهشة. داخل حرم الجامعة اليسوعية في بيروت، بدأ العمل في قاعات المتحف المتعددة عام 2013. إلى جانب جناح أحافير لبنان، الذي يحتوي على نحو 300 أحفورة، يضم المتحف 1800 قطعة معدنية، جمعها رئيس المتحف رجل الأعمال سليم إده، الشغوف بالمعدنيات، بدءًا من العام 1997.
قرية الأسماك المتحجرة
بدأت القصة قبل عشر سنوات، حين عثر أحد المنقبين على الأحفورة في بلدة حجولا الملقبة بقرية الأسماك المتحجرة، ثم باعها لأحد التجار لتصل إلى جامعة ألبرتا في كندا. بعد ذلك بسنوات، تواصل التاجر مع شخصيات عدة في لبنان لبيع القطعة، حتى نجح رئيس “متحف ميم” سليم إده، في استعادتها مقابل مبلغ كبير من المال.
يتحدث رجل الأعمال سليم إده بشغف عن امتلاكه لهذه الأحفورة التي سُمِّيت تيمُّنًا باسم متحفه، والمفاوضات التي جعلته يحصل على القطعة الأساسية (holotype) التي درستها جامعة ألبرتا، يقول: “كان مالكها على وشك بيعها لمتحف هيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما علمت بالقصة، اشتريتها ووضعتها في المتحف”.
ويضيف -في حديث خاص إلى مجلة “للعلم”- أن “تلك الأنواع من الزواحف المسماة تيروصورات سيطرت على الفضاء لملايين السنين قبل أن تنقرض بحوالي 66 مليون سنة. كانت قد ظهرت في العصر الترياسي الحديث (قبل 220 مليون سنة)، وكانت الفقريات الأولى القادرة على الطيران قبل العصافير والوطاويط الحديثة، واختفت في الوقت عينه الذي اختفت فيه الديناصورات.
قبل 95 مليون سنة (العصر الطباشيري الحديث)، كان ميمودكتيلوس ليباننسيس يجوب البحار في سماء لبنان، مالئًا جزءًا مفقودًا من تاريخ السجل الجيولوجي للتيروصور في القارة الأفرو-عربية، وتحديدًا من العصر الطباشيري الحديث، في منطقة حجولا (Hjoûla Lagerstätte) في لبنان.
وأظهرت دراسة جامعة ألبرتا المنشورة في مجلة ساينتفيك ريبورتس scientific reports، نوفمبر 2019- والتي أُجريت بالتعاون مع باحثين من جامعة القديس يوسف، والمعهد الكتلاني للحساب القديم ميكيل كروسافونت في إسبانيا- أن هذه الأحفورة تنتمي إلى نوع وجنس جديدين من البتيرودكتيل، وهو يختلف عن التيروصورات الأخرى المكتشَفة حتى الآن، ووجد العلماء أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأحفورة أخرى عُثر عليها في الصين. ما يعني، وفق نتائج الدراسة، أن الزواحف الطائرة القديمة المعروفة باسم التيروصورات كانت أكثر تنوُّعًا مما كان يُعتقد.
“لقد كان تنوُّع هذه الحيوانات القديمة أكبر بكثير مما كان يمكن أن نتخيله في أي وقت مضى”، كما قال عالم الحفريات مايكل كالدويل، مؤلف مشارك في الدراسة.
ويقول البروفيسور داني عازار -رئيس الجمعية اللبنانية لدراسة الأحافير والتطور (APEL)- في حديث خاص مع مجلة “للعلم”: “الميمودكتيلوس ليباننسيس هو الزاحف المجنح الأكثر اكتمالًا، وهو الوحيد الذي تم اكتشافه حتى أيامنا هذه في لبنان، وإنه لمن النادر جدًّا أن يُعثر على نموذج كامل لحيوان طيار محفوظ في رواسب بحرية”.
ويضيف “عازار”: جرى العثور في السابق على التيروصورات في بلاد الصين والمغرب والأرجنتين والبرازيل وألمانيا، ولكنه الأول في لبنان، علمًا بأنه جرى العثور سابقًا على بعض العظام التابعة للتيروصورات، وهي موجودة ضمن مجموعة القطع التي يملكها عالِم الأحافير اللبناني بيار أبي سعد في متحفه في جبيل (37 كلم شمال بيروت).
يشير “عازار” إلى أن هذا الصوري المجنح “يُقدّم فكرةً كاملةً عن المحيط الطبيعي الذي عاش فيه هذا الكائن قبل 100 مليون سنة، ويجعلنا على قدرٍ واسعٍ من المعرفة حول التطور الذي شهدته هذه الكائنات عبر ملايين السنين، ومعرفة أنواع الحيوانات والنباتات الأخرى التي كانت موجودةً في ذلك الزمان”.
الملفت في ميمودكتيلوس ليباننسيس -وفق “عازار”- أنه “لا يشبه كليًّا التيروصورات التي عُثر عليها في الصين، أو في قارة آسيا، ولا يوجد شبه أيضًا بينه وبين تلك التي عُثر عليها في أوروبا وأمريكا الجنوبية، وتحديدًا في البرازيل”. فقبل 100 مليون سنة (عصر Cenomanian)، كانت الكرة الأرضية مختلفةً جغرافيًّا عما هي عليه الآن. ووفق البروفيسور “عازار”، فقد كان لبنان ينتمي جيولوجيًّا إلى قارة جندوانا GONDWANA التي قدّمت كُلًّا من أمريكا الجنوبية وأفريقيا وشبه الجزيرة العربية وأستراليا وأنتاركتيكا والهند ومدغشقر، ولم تكن جبال الهملايا قد ظهرت بعد.
وخلال حقبة 130 مليون سنة، بدأت هذه الدول بالافتراق بعضها عن بعض، وبدأت أمريكا الجنوبية بالانشقاق عن القارة الأفريقية قبل 95 مليون سنة، وكانت الهند بالقرب من بحر كبير أُطلقَ عليه اسم “تيثس” TETHYS OCEAN.
ويستغرب “عازار” غياب الشبه بين التيروصورات المعثور عليها في البرازيل، علمًا بأن الأخيرة كانت تُشكّل جزءًا من قارة جندوانا، بينما يمكننا أن نجد “بعض الشبه” بين التيروصور المكتشَف في لبنان وذلك المكتشَف في الصين، علمًا بأن الأخيرة كانت في قارة أخرى، اسمها لوراسيا LAURASIA، وهذا يعني أنه على الرغم من ابتعاد القارتين بعضهما عن بعض، كان هناك اتصالٌ ما بين القارتين، عبر نوعٍ من الأرخبيل.
مميزات الميمودكتيلوس ليباننسيس
وفق دراسة جامعة ألبرتا، يحمل الكائن جسمًا قصيرًا سمينًا ورأسًا ضخمًا وينتهي بذنب قصير، ولقوائمه الأمامية 4 أصابع، الإصبع الرابعة بالغة النمو وتبسط غشاء الأجنحة الذي يبلغ طوله 1.32 مترًا تقريبًا. تستطيع هذه الزواحف أن تطير مرفرفةً بفضل أجنحتها المغطاة -على ما يبدو- بشعيرات وبرية (لكنها معدومة الريش تمامًا)، إلا أنها سيطرت كذلك على الطيران الحائم عبر استعمال تيارات الهواء الفضائية. كانت عظامها بالغة الرقة، وهذا ما مكّنها من خفض وزنها من 70 إلى 80 في المئة، وتسبَّب في ندرة الأحافير المحفوظة بصورة جيدة.
وتشير الدراسة إلى أن هذا النوع من الزواحف الطائرة آكلة اللحوم يتغذى على الأرجح على الأسماك والحشرات، فخطمه ذو الشكل الدائري، وفكه المحصن بأسنان حادة، يتيحان له التقاط الأسماك الصغيرة، التي وُجدت بقاياها بجانب هيكله.
ليس ديناصورًا ولكن
يعتقد البعض أن هذا الصوري المجنح من عائلة الديناصورات، إلا أن الكلمة الأخيرة شاع استعمالها بشكل كبير في اللغة الدارجة، حتى أدى استعمالها الطائش إلى إطلاقها على سحاليَّ عملاقة عاشت في الوقت ذاته، وهي الصوريات والأفاعي البحرية.
ظهرت الصوريات في العصر الترياسي الحديث قبل 220 مليون سنة، وهي تشكل كيانًا بذاته منحدرًا من الصوريات البدائية، وهي زواحف كانت قد ظهرت قبل 230 مليون سنة، وتضم:
شجرة عائلة الزواحف
التمساحيات crocodiles (التي انحدر منها التماسيح، وأجناس الكيمان وتمساح أمريكا المسمى قاطور).
السلحفيات.
السحليات (سقايات وأفاعي وديناصورات).
العصافير.
الصوريات (الصوري المجنح، البترانودون… إلخ) التي اختفت في الوقت ذاته الذي اختفت فيه الديناصورات الضخمة.
بعض الزواحف المائية المنقرضة (مثل plesiosaurs).
ولذلك يمكننا اعتبار الميمودكتيلوس ليباننسيس، ابن عم الديناصورات (معاصر من 95 مليون سنة).
عصافير اليوم وديناصورات الأمس
منذ نهاية العصر الترياسي (ما بين 251 مليون سنة إلى 201.6 مليون سنة) راحت أجسام الديناصورات (مجموعة من الفقريات الأرضية بالغة الفرادة، وتتراوح قامتها بين حجم عصفور الضريس وقامة العمالقة التي يتجاوز طول الواحد منها ما بين 30 و40 مترًا) -والتي كانت تتغذى أساسًا على الحشرات الغنية جدًّا بالبروتينات- تكتسي بالريش، بحيث أدى هذا الريش دور العازل الحراري الذي أتاح لهذه الديناصورات تجاوُز الأزمة البيولوجية الحادة التي حدثت منذ 66 مليون سنة والبقاء على قيد الحياة.
اكتساء الديناصورات بالريش أتاح لها كذلك البدء في الطيران، وقد طورت هذه الفئة من العصافير تقنية الطيران، في الوقت الذي كانت تعيش به جزئيًّا في مياه محيط تيثس Tethys حيث تتغذى على الأسماك، وبذلك تظل الديناصورات حاضرةً بطريقةٍ ما على كوكبنا. يقول البروفيسور داني عازار: “لم يعد اليوم أي لغط علمي على تحوُّل بعض الديناصورات إلى عصافير”.
أين توجد الأحافير في لبنان؟
حتى أيامنا الحالية، يبقى قضاءا جبيل وكسروان المنطقتين اللتين قدمتا العدد الأكبر من المقالع الطبيعية لاستخراج الأسماك الأحفورية، فقد تم تحديد هوية ما لا يقل عن 450 جنسًا من الأسماك و50 جنسًا من القشريات، التي تضم مواقع في حاقل (54 كيلومترًا شمال بيروت) وحجولا (35 كيلومترًا شمال بيروت) والنمورة (35 كيلومترًا شمال بيروت) وساحل علما (17 كيلومترًا شمال بيروت)، والتي تحتوي على مواقع العصر الطباشيري الحديث، تشكلت من الصخر الكلسي السجيلي المنضد، وثمة 75 في المئة من الأجناس المتحجرة التي جرى اكتشافها في المقالع اللبنانية قد اختفت اليوم.
تاريخيًّا، وُلد لبنان من رحم حركة تَقارُب شاسعة بين قارتي أفريقيا ولوراسيا. وقد أدت هذه الحركة إلى اختفاء أوقيانوس، محيط كبير كان يمتد من البرازيل إلى اليابان، في الفترة ما بين 250 و150 مليون سنة قبل الآن. وقد أسماه العلماء محيط “تيثس” Tethys ocean، ومن الأراضي التي غطاها هذا الأوقيانوس تلك التي تُشكّل لبنان اليوم.
كانت هذه البسطة الشائعة من الماء ممتلئةً بالصخور الكبيرة وبالبحيرات التي تقطنها حيوانات بحرية شديدة التنوُّع (أسماك، أفاعٍ، سقايات، سلاحف)، وقد امتدت رواسبها من جبال ألبيرينيه (جنوب غرب أوروبا) حتى جبال الألب، وجبل لبنان، وجبال الهملايا، وصولًا إلى اليابان شرقًا.
لقد أدى نهوض هذا القاع البحري إلى انتصاب جبل لبنان الذي يتتابع في أيامنا الحالية بوتيرة بالغة البطء. أما الصخور الكلسية التي تؤلف لبنان فقد تشكلت في أعماق المحيط، وحافظت على أسماك وحيوانات أخرى متحجرة اشتهرت في أرجاء العالم نظرًا لطريقة حفظها المثالية، وللتنوُّع الفائق لأجناسها.
تربة لبنان حافظت على أحافير الكائنات اللينة
منذ عام 2018، يحتضن قسم الإحاثة في “متحف ميم” عددًا من العينات رفيعة المستوى، تبلغ حوالي 200 عينة من أحافير الأسماك (قرش، شفنين بحري، سمك أبو منشار، سردين)، والقشريات (قريدس، ربيان، كركند، أخطبوط، سرطان)، وأحافير السلحفاة، والأفعى والسقاية، وأحافير نباتية كذلك (سرخس، صنوبري)، وبعض أحفوريات الحشرات، كما يضم المتحف قطعًا من مجموعة تُعرف بمجموعة عائلة أبي سعد الخاصة، وقد أضيف الطائر الصوري المجنح إلى المجموعة. ويشير سليم إده إلى أن جودة التربة في لبنان استطاعت الحفاظ على الكائنات اللينة التي لا تمتلك عظامًا مثل أسماك القرش الغضروفية والأخطبوط والشفانين، والتي من المفترض ألا تُبقي آثارًا خلفها.
كيفية تكوُّن أحافير لبنان
إذا كان القدماء قد عرفوا الأسماك المتحجرة بصورة جيدة، فالبعض منهم اعتقدوا أنها ماتت في أثناء الطوفان، غير أن العلم تمكَّن من تفسير ظاهرة التحفُّر في هذه الحالة الجيدة. إذ وفق ما انتهت اليه الأبحاث العلمية فإن تاريخ أحافير لبنان قد نجم عن سلسلة متتالية من المصادفات المميزة، فمن شأن تكاثُر الطحالب على سطح البحر أن يتسبب للحيوانات البحرية بالاختناق الفوري الناجم عن نقص الأوكسجين، وهو ما نتج عنه انعدام وجود البكتيريا التي تفكِّك الجيف وتحلِّلها، وهذا ما حافظ عمليًّا على الحيوانات والنباتات المتراسبة في القاع، ومن ثم وبسرعة غطت طبقةٌ من الرواسب هذه الجيف، حافظت في طياتها على آثارها، مما سمح بحفظها في وقت لاحق في شكل أحافير.
التاريخ الطبيعي في لبنان يحتاج إلى الحماية
حتى هذه اللحظة لم يتمكن العلماء في لبنان من إنشاء متحف للتاريخ الطبيعي. مبادرة بسيطة بدأها البروفيسور داني عازار مع زملائه في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية في الفنار (7 كيلومترات شرق بيروت)، قضت بتأسيس متحف صغير يحتوي على أحافير وبعض الكائنات المتحجرة وتحديدًا الحشرات، بالإضافة إلى مجموعة صغيرة في الجامعة الأميركية في بيروت.
وفق “عازار”، خرج من لبنان مئات الآلاف من الأحافير بطريقة غير شرعية على مدى العقود الثلاثة الماضية، وتحديدًا خلال فترة الحرب الأهلية، نظرًا لعدم وجود أي قانون يحمي هذه الثروة الطبيعية، وحماية هذه الثروة يقتضي إنشاء مؤسسة وطنية تُعنى بحماية الإرث الطبيعي والتاريخي في لبنان.
مصطفى رعد
صحافي بيئي لبناني منذ العام ٢٠٠٩، وخبير في علوم التواصل. حاصل على المرتبة الأولى في جائزة العين المفتوحة العالمية في العام ٢٠١٨ ومستشار إعلامي في المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان والمركز اللبناني للغوص.
https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/discovering-a-new-type-of-pterosaur-in-lebanon/?fbclid=IwAR0c03pNZWuneC7YIgBWndKew2LPpXhzOW7zoTMako5rhkyYZ0f66pWIyE0