الرئيسية » اراء ودراسات » هل يكون ترامب … غورباتشيف أميركا؟

هل يكون ترامب … غورباتشيف أميركا؟

جمال واكيم

 

في العام 1985 وصل ميخائيل غورباتشوف الى السلطة في الاتحاد السوفياتي ومعه بدأت كتلة الدول الاشتراكية مرحلة من التراجع وصلت الى حد تفككها في العام 1989 منهية الحرب الباردة. وقد تلا ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه في العام 1991 الى 15 دولة ما أحدث زلزالا دوليا لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.

 

 

روسيا الشيوعية

 

 

كثيرة كانت اسباب الانهيار الذي اصاب الاتحاد السوفياتي، من المشكلات الاقتصادية التي كان يعاني منها، الى مشكلة القوميات ونزعتها الى التعبير عن نفسها، الى أزمة الجهاز البيروقراطي الحاكم وما تسبب به من أزمة سلطة أدت الى الشلل طويل الامد الذي اصاب الدولة في عهد ليونيد بريجنيف الذي حكم بين عامي 1964 و 1982. لكن يبقى السبب الرئيسي في هذا الانهيار هو في عدم قدرة القادة السوفيات الذين خلفوا نيكيتا خروتشيف في دفع مشروع الدولة الامبراطورية قدما عبر تثبيت اقدامها في منطقة الشرق الاوسط وعلى ضفاف المتوسط. فالاتحاد السوفياتي كان نظام الدولة الذي خلف الامبراطورية الروسية في العام 1917. وقد كانت الثورة البولشفية هي التي اعطت هذا الكيان روحا جديدة جعلته يعيش ل 74 سنة أخرى في الوقت الذي تفككت فيه امبراطورية النمسا المجر والامبراطورية العثمانية.

كان على الحكم الجديد أن يواجه تحديات عدة لتثبيت وضعه من ضمنها احداث تحول اقتصادي واجتماعي لانتشال عشرات ملايين المواطنين السوفيات من الفقر والعوز، ومواجهة الحرب الاهلية وتصنيع البلاد وتسليحها لمواجهة المخاطر الخارجية، ثم مواجهة أكبر حرب تدميرية شنت عليه في حزيران/يونيو من العام 1941 والتي ستدوم نحو خمس سنوات وتدمر معظم البنى التحتية لغرب البلاد وتودي بحياة نحو ثلاثين مليون سوفياتي. لقد كانت الحرب الالمانية على الاتحاد السوفياتي في جوهرها حرب قوى عالم قديم سادت على العالم، ضد قوة تعبر عن عالم جديد كان في طور التشكل. وقد كان هذا العالم الجديد هو العالم الذي انكسرت فيه الهيمنة الاوروبية على العالم لصالح قوتين غير أوروبيتين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، بما تحملانه من منظومات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، ولو متناقضة. وكان مقدرا لأوروبا أن تنقسم بين أوروبا غربية تحت الهيمنة الاميركية وأوروبا شرقية تحت الهيمنة السوفياتية.

خلال الحرب العالمية الثانية، كان الاتحاد السوفياتي حليفا للولايات المتحدة، وكان الدعم الأميركي للسوفيات أساسيا في الصمود في مواجهة ألمانيا النازية. ولقد احتار كثيرون وحتى يومنا هذا في الاسباب التي دفعت بواشنطن الى تجاوز خلافاتها الايديولوجية مع موسكو ودعمها حتى على حساب حليفتها الاخرى الاقرب لها وهي بريطانيا العظمى. منهم من عزا ذلك الى اشتراك القوتين بحماية القيم الانسانية في مواجهة البربرية النازية، الا أن الوثائق التاريخية تفيد بأن الحلفاء لم يكونوا أقل وحشية من النازيين خلال خوضهم الحرب. ومنهم من عزا ذلك الى مساعي الالمان لفرض الهيمنة على العالم بما يشكل خطرا على القوتين. لكن قلة هم من رأوا حقيقة أن دعم واشنطن لموسكو في الحرب كان بغرض اطلاق المشروع الامبراطوري الاميركي في العالم. فمنذ تأسيسها قامت الولايات المتحدة على فرضيتين، الأولى في أنها اسرائيل الجديدة أو ملكوت الله على الأرض، والثانية في أنها اعادة تجسيد للامبراطورية الرومانية. وقد شكلت الحرب العالمية الثانية فرصة لها لتحقيق حلمها، لكن كان عليها قبل ذلك كسر القوى الاوروبية التي هيمنت على مقدرات العالم منذ القرن الثامن عشر، وكان الاتحاد السوفياتي هو القوة القادرة على ذلك وهو ما حققه بانتصاره على ألمانيا النازية.

 

 

 

الحرب الباردة

 

ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدأت الولايات المتحدة بخطة لتطويق الاتحاد السوفياتي بسلسلة من الاحلاف العسكرية بغية منعه من الوصول الى طرق الملاحة البحرية. فأقامت حلف شمال الأطلسي في العام 1949 وأتبعته بحلف عسكري آخر في جنوب شرق آسيا وحاولت أن تقيم حلفا في منطقة الشرق الأوسط يضم الدول العربية وتركيا وايران وباكستان. لكن قبل استكمال هذا المخطط كان عليها أن ترث القوى الاستعمارية الأوروبية بالحلول مكانها في هذه المستعمرات عبر فرض أنماط من الهيمنة المالية والاقتصادية والتي اصطلح على تسميتها بالامبريالية الأميركية. لكن ما عرقل الخطط الأميركية كان انطلاق حركة التحرر العالمية في باندونغ في العام 1954 بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر واليوغوسلافي جوزيف تيتو والهندي نهرو والاندونيسي أحمد سوكارنو، وغيرهم. ولقد كان الدور المصري محوريا لجهة افشال حلف بغداد في الشرق الأوسط ما أدى الى تقاربه مع الاتحاد السوفياتي. ولقد رأى الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف في عبد الناصر فرصة تاريخية لكسر الحصار عن بلاده. وقد خولت مصر في ظل عبد الناصر للاتحاد السوفياتي، ليس فقط كسر الطوق الأميركي عليه، لكن أيضا الوصول الى شرق المتوسط وهو الحلم الروسي القديم منذ بطرس الأكبر والانطلاق نحو عمق افريقيا لمنافسة الولايات المتحدة على النفوذ هناك.

لمدة عشر سنوات وحتى العام 1964 بدا وكأن العالم يتجه نحو انتصار الثورات الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفياتي وهزيمة الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة. إلا أن الاطاحة بنيكيتا خروتشيف في أواخر العام 1964 كانت ستقرر مسار الامور بعد ذلك. فلقد حل مكانه قيادة سوفياتية ممثلة بليونيد بريجنيف والذي نادى بالانفراج الدولي مع الولايات المتحدة وبتخفيف التوتر معها، وكان هذا يعني ضمنا العودة الى الحدود التي رسمتها اتفاقية يالطا عام 1945 لتوزيع النفوذ في العالم بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وبها تكتفي موسكو بالاحتفاظ بنفوذ في اوروبا الوسطى والشرقية. كان هذا يعني تخفيف أو سحب الدعم لدول العالم الثالث والتراجع عن استفزاز الولايات المتحدة لتجنب المواجهة معها. هذا أدى الى سلسلة انقلابات في العالم ضد الرؤساء المعادين للولايات المتحدة. وفي الشرق الأوسط فلقد أدى الموقف السوفياتي الى تخفيف الدعم لجمال عبد الناصر ما ساهم في هزيمته في العام 1967. وبعد ثلاث سنوات توفي الزعيم المصري وخلفه في الحكم أنور السادات الذي قاد عملية تحول جذرية في السياسات الخارجية المصرية باتجاه الانضواء تحت المظلة الأميركية خصوصا بعد عام 1974. ورغم أنه كان هنالك عوامل عدة أدت الى التحول المصري لكن كان أحد هذه العوامل هو في عدم استعداد السوفيات لدعم مصر بنفس الدرجة التي كانت الولايات المتحدة تدعم فيها اسرائيل. ولقد شكلت خسارة مصر ضربة موجعة للاتحاد السوفياتي الذي بدأ نفوذه يتراجع في العالم وصولا الى العام 1985 وما تلاه من أحداث أدت الى هزيمة موسكو في الحرب الباردة. اذن لم يكن غورباتشوف المسؤول الوحيد عن انهيار الاتحاد السوفياتي بل كانت جملة عوامل أدت الى جمود الاتحاد السوفياتي وفقدانه اندفاعته الجيوسايسية وخصوصا في منطقة الشرق الاوسط وصولا الى شرق المتوسط.

 

رأسمالية النهب الأميركي

 

 

أدى انهيار االاتحاد السوفياتي في العام 1991 إلى فتح المجال أمام واشنطن لتحلم بزعامة العالم من دون منازع. هذه الزعامة العالمية كانت أساسية وحيوية للولايات المتحدة ليس فقط لضمان مستوى رفاهية عال للأميركيين بل أيضاً لإبقاء الولايات المتحدة… متحدة. فقبل مئة وخمسين عاماً كانت الجيوش الأميركية تخوض أكبر حرب في تاريخها على الإطلاق، وهي الحرب الأهلية الأميركية. كانت الولايات الشمالية الشرقية قد بدأت بالتصنيع منذ أوائل القرن التاسع عشر. ومع حلول منتصف ذلك القرن كانت قد ظهرت الحاجة لأسواق جديدة. فالتفتت الرأسمالية الأميركية الوليدة إلى إيجاد أسواق جديدة ومواطن لتوسيع الاستيطان مع توسع الهجرة إلى الولايات المتحدة. نظر اليانكيون (الأميركيون الشماليون)إلى الولايات الجنوبية باعتبارها سوقاً جديدة لبضائعهم، وممراً لتوسعهم نحو الغرب.

حتى ذلك التاريخ كان الاتحاد الذي جمع الولايات الثلاث عشرة التي استقلت عن بريطانيا في العام 1776 اتحاداً كونفدرالياً ضعيفاً أبقى للولايات استقلالاً شبه تام. لكن كان لشروط توسع السوق فرض مركزية أكبر والحد من استقلالية الولايات حتى تزال الحواجز أمام التجارة الداخلية فكانت الحرب الأهلية لرفض الولايات الجنوبية التنازل عن حقوقها السياسية. بعد ست سنوات تمكن الشماليون من الانتصار في الحرب عبر خنق اقتصاد الجنوب بعد فرض حصار منعه من تصدير قطنه إلى المصانع البريطانية. إلا أن كسب الرضا في ما بعد كان عبر إشراك الجنوبيين في المكاسب الاقتصادية التي نتجت عن التصنيع. ومنذ ذلك التاريخ أضحى الإشراك بالمنافع الاقتصادية هو الصيغة لتدعيم الوحدة الأميركية. هذه الصيغة جعلت الولايات المتحدة تعتمد على «النهب»، ومنذ ذلك التاريخ أضحت وحدة الولايات المتحدة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بتوزيع مغانم هذا النهب على مواطنيها. وللتمكن من النهب كان على أميركا التوسع وخوض الحروب، ما حتم عليها السعي لدور إمبريالي. وبالتالي فقد ارتبطت وحدة الولايات المتحدة منذ نشوئها الفعلي في العام 1865 بتحولها إلى قوة عظمى. وما كان النظام «الديمقراطي» إلا وسيلة لتحقيق هذا الهدف فكما يقول بيتر غران، فإن النظام الديمقراطي هو النظام الأمثل لإدارة اقتصاد حرب.

 

 

عقب الحرب الأهلية كان موعد الأميركيين مع الحروب الهندية التي قضت على ملايين الهنود الحمر وصادرت أراضيهم. ما ان انتهت أخر تلك الحروب بهزيمة الزعيم الهندي جيرونيمو في أواخر القرن التاسع عشر حتى كان موعد الأميركيين مع حرب أخرى مع إسبانيا أخرجتها من منطقة الكاريبي وأفقدتها مستعمراتها في الفليبين التي أضحت تحت السيطرة الأميركية. تلت تلك الفترة مرحلة سياسة العصا والجزرة التي اعتمدتها واشنطن لفرض سيطرتها السياسية على دول أميركا اللاتينية. أعقب ذلك مشاركة الأميركيين في الحرب العالمية الأولى التي شكلت أول نذير بتحول الولايات المتحدة إلى القوة العظمى الأولى في العالم خلفاً لبريطانيا، وهو ما تحقق عقب الحرب العالمية الثانية. عقب تلك الحرب أضحت واشنطن أقوى دولة على الصعيدين العسكري والاقتصادي وأضحت الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا وغيرها تابعة لها. كانت الفترة الممتدة من العام 1945 إلى العام 1990 فترة مجيدة في تاريخ الولايات المتحدة لم يؤرقها إلا التحدي الذي شكله لها نفوذ الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه.

 

امبراطورية معولمة

 

كان نصر الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي نتيجة إنهاكه اقتصادياً في سباق التسلح. لقد أدى هذا إلى صرف السوفيات مدخراتهم على سلاح لا قيمة اقتصادية له ما أدى بهم إلى الهاوية. لكن سباق التسلح هذا أدى أيضاً إلى إنهاك الولايات المتحدة نفسها. فقد تبين لواشنطن أنها في الوقت الذي كانت تركز فيه على هزيمة موسكو، كانت قوى أخرى كاليابان وألمانيا المحرومتين من التسليح تركزان على تطوير وسائل إنتاجهما ليكونا أفضل جودة وأقل تكلفة. وعشية النصر الكبير اكتشفت أميركا أنها تتخلف بثلاثة عقود عن ألمانيا واليابان في مجال تطوير وسائل الإنتاج. في الوقت نفسه كانت الصين على وشك التحول إلى قوة اقتصادية كبيرة فيما كانت روسيا تسعى لإستعادة توازنها وهو ما حققته مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في العام 1999.

ما السبيل للبقاء قوة عظمى في عالم أضحى فيه الاقتصاد المعيار الأول للقوة؟ لقد كان على الولايات المتحدة إيجاد السبيل للحاق بألمانيا واليابان ومن بعدهما الصين وذلك بجعل إنتاجهما أكثر كلفة. وكان السبيل هو في احتكار النفط، المصدر الرئيسي للطاقة في العالم لقرون مقبلة. كما كان على الولايات المتحدة إعادة تنظيم مناطق النفوذ في العالم بما يتناسب مع مصالحها بحيث تصبح هي المقرر الرئيسي في عالم يتحول إلى متعدد للأقطاب. في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”، حدد مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر الخطوط العامة التي يجب أن تكون عليها سياسة واشنطن لعالم ما بعد الحرب الباردة. لقد اعتبر زبيغنيو بريجنسكي في هذا الكتاب أن على الولايات المتحدة السيطرة على منطقة الشرق الأوسط الممتدة من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين. هذه السيطرة ستتيح للولايات المتحدة السيطرة على منابع النفط وجعلها تبتز اقتصاديات اليابان وأوروبا والصين. كما أن هذه السيطرة ستمنع تشكيل قطب أوراسي عبر انضمام روسيا إلى أوروبا، وستتيح عزل أوروبا عن أفريقيا. وعقب ذلك ستسهل السيطرة على أوروبا وذلك بابقاء منطقة متفجرة تهدد الأمن الأوروبي في البلقان، وستسهل السيطرة على روسيا عبر ربطها اقتصادياً بالولايات المتحدة. وبالسيطرة على هذين القطبين ستسهل السيطرة على قارتي أفريقيا وآسيا خصوصاً في ظل الثقافة الصينية التي تدفع دائماً بالصين إلى الانطواء على نفسها.

طوال التسعينيات من القرن الماضي كانت الولايات المتحدة تحاول تحقيق هدفها الاستراتيجي في الوقت الذي كانت القوى الأخرى تحاول عرقلة هذا المسعى أو الدفاع عن مصالحها لكن من دون سياسات استراتيجية واضحة. لقد كان الوضع شبيهاً إلى درجة كبيرة بالصراع الذي كان دائراً بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي في السهول الروسية. استراتيجية ألمانية تحاول تحقيق أغراضها العسكرية والسياسية، السيطرة على أوروبا حتى الأورال، واستراتيجية روسية قائمة على الدفاع ورد الفعل في محاولة لعرقلة المسعى الألماني والحد من خسائرها. كما ألمانيا كذلك الولايات المتحدة التي كانت تسعى لتحقيق استراتيجيتها في مواجهة قوى تكتفي برد الفعل ومحاولة العرقلة دون الدخول في مواجهة حاسمة مع الولايات المتحدة.

 

 

الهيمنة على الشرق الأوسط

 

 

مع بزوغ فجر الالفية الجديدة كان على الأميركيين أن يتخذوا قرارات مصيرية لجهة حسم موضوع زعامتهم للعالم من دون منازع. هذه الزعامة هي التي كانت ستؤمن للولايات المتحدة نهباً جديداً يتوزع مغانم على الأميركيين. وهذا التوزيع للمغانم هو الذي كان سيضمن عدم وقوع الشواطىء الغربية الأميركية على المحيط الهادىء تحت تأثير الصين ذات النجم الصاعد في تلك المنطقة. وهذا النهب هو الذي كان سيقدم مغانم اقتصادية لأميركيي الساحل الشرقي لكي لا يقعوا تحت سحر أوروبا ذات الجاذبية الثقافية العريقة. وهذا النهب هو الذي كان من شأنه إرضاء الولايات الجنوبية الساعية دائماً إلى الانفصال عن الشمال عبر رشاوى اقتصادية. وهذا النهب هو الذي كان من شأنه إسكات أصوات الأقليات الجائعة كالاسبان والسود والآسيويين.

وكما كانت الحرب العالمية الثانية ضرورة لخلق مجالات حيوية للزيادة السكانية وللصناعة الألمانية، فقد شكلت الحرب على الإرهاب ضرورة لكي تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة على الشرق الأوسط. وكما اصطنعت ألمانيا في أيلول/سبتمبر 1939 من «هجمات بولندية» قام بها جنود ألمان بلباس جنود بولنديين على قرى ألمانية حدودية ذريعة لخوض الحرب، فقد اتخذت الولايات المتحدة من هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 على برجي التجارة في نيويورك ذريعة لاجتياح أفغانستان والعراق. لقد كانت الحرب على أفغانستان في خريف 2001 فرصة لتحدد الولايات المتحدة المدى الأقصى الذي تطمح للسيطرة عليه في هذا الشرق الأوسط. وكان من شأن الحرب على العراق أن تعطي الولايات المتحدة فرصة إعطاء عمق لهذا الشرق الأوسط إضافة إلى السيطرة على النفط. وكانت الخطوة التالية هي إسقاط النظام في إيران وفي سوريا أو تطويعهما حتى تستكمل السيطرة على الشرق الأوسط. وكانت الانقلابات التي دعمتها في جورجيا وأوكرانيا لحماية أجنحة جبهتها في الشرق الأوسط.

لم يكن النصر الأميركي في أفغانستان وخصوصاً في العراق حاسماً. فالنمط الجديد من الحرب اللامتكافئة الذي اعتمدته الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي تعلمته القوى الأخرى واعتمدته لعرقلة المشروع الأميركي. فإذا بإيران وسوريا تدعمان المقاومة العراقية وتجعلان الاحتلال مكلفاً لواشنطن. وإذا بروسيا تدعم انقلابات مضادة تحاصر الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي في جورجيا وتزيح فيكتور يوشينكو عن السلطة في أوكرانيا. وقد ترافق ذلك مع أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة كانت العامل الأبرز في انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود في التاريخ الأميركي.

 

بين أوباما وترامب

 

مع أوباما بات الأميركيون واعين لمحدودية قدرتهم فإذا بهم يضغطون لفرض اتفاق سياسي مع حكومة عراقية موالية لهم تخفف عن كاهل قواتهم حتى يتاح لهم التركيز على شد قبضتهم على أفغانستان. في المقابل استفادت إيران من التعثر الأميركي ليس فقط لدرء الخطر عن نظامها الإسلامي، بل أيضاً لمد نفوذها على عدد من المواقع الاستراتيجية إن في لبنان عبر حزب الله، أو في غزة عبر حماس، أو في اليمن عبر دعم الحوثيين ضد القوات الحكومية اليمنية والسعودية على حد سواء. لقد بات الوضع الأميركي في الوقت الراهن شبيها بوضع هتلر عقب معركة ستالينغراد. فكما أن هذا الأخير فقد أمله بالوصول إلى قلب آسيا فالمحيط الهادىء بعد استسلام جيشه على ضفاف الفولغا، فقد وعى الأميركيون أن مشروعهم للشرق الأوسط الأكبر حتى حدود الصين بات صعب المنال. لكن كما حاول هتلر في معركة كورسك تثبيت وضعه في أوروبا الشرقية بغية الحفاظ على دور قيادي عالمي فإن الولايات المتحدة تعي أيضاً أن عليها تثبيت الحدود الدنيا لهذا الشرق الأوسط الذي تريده عبر الإبقاء على سيطرتها على الجزيرة العربية ومنطقة الهلال الخصيب التي تضم العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن. ومن أجل ذلك كان على الولايات المتحدة خوض معركة أخيرة حاسمة في مواجهة القوى المناوئة، وقد تمثلت هذه المعركة ب”الربيع العربي”. وقد هدف هذا الربيع العربي الى اعادة رسم الجغرافيا السياسية في الشرق الاوسط وتقسيم الدول العربية لضمان ولاء المنطقة للولايات المتحدة. وعلى الرغم من النجاحات التي تحققت في تونس وليبيا ومصر والنجاح الجزئي في اليمن والعراق الا أن الفشل الأميركي في سورية كان سيهدد كل ما تم انجازه من قبل واشنطن وحلفائها.

 

خلافا لجميع التوقعات فلقد فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية على هيلاري كلينتون، المرشحة المدعومة من مراكز القوى والدولة العميقة في الولايات المتحدة. ولقد كثرت التكهنات في اسباب وصول مرشح من خارج نادي النخب الاميركية التقليدية الى سدة الرئاسة. ولقد كانت العوامل التي أدت الى ذلك عديدة، منها أزمة الطبقة الوسطى الناجمة عن التشوه البنيوي الذي اصاب الاقتصاد الأميركي، وأزمة المديونية والانتاجية والمهاجرين، اضافة الى فشل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في فرض هيمنتها المطلقة في مواجهة القوى المنافسة لها وهي روسيا والصين وايران. لقد كان انتخاب ترامب اذن حركة احتجاجية من الكثير من المتضررين من عوامل الفشل التي بدأت تتجلى بعمق في المنظومة الأميركية. والجدير ذكره أن ترامب لا يملك مشروعا اصلاحيا يمكن له أن ينقذ الولايات المتحدة من أزمتها. لكن الجدير ذكره أيضا هو أن ترامب ليس سبب الازمة بل هو تعبير عنها. ولقد كان الفشل في الشرق الأوسط، والذي سيتأكد بعد استعراض قوة اخير ستقوم به الولايات المتحدة، يعني الفشل في تجديد سياسات النهب التي يمكن لها أن تخرج الأميركيين من أزمتهم الاقتصادية، والفشل في السيطرة على طرق المواصلات العالمية بما يجعل الولايات المتحدة قادرة على ابتزاز القوى العظمى الأخرى. هذا ينذر بفشل المشروع الامبراطوري الأميركي وبالتالي تفاقم الأزمات الداخلية الأميركية. وبالعودة الى التاريخ فلقد حققت الولايات المتحدة وحدتها عندما تحولت الى قوة عظمى، فهل يؤدي تراجع نفوذها في العالم الى تعرضها الى عملية تفجير داخلي تؤدي الى انفصال ولايات عنها تماما كما حدث مع الاتحاد السوفياتي في ظل غورباتشيف؟ .

عن جورنال