منذ تشكّل وعي كثير من اللبنانيين وهم ينظرون إلى من يعملون في السياسة نظرة تفتقد إلى المصداقية والشفافية، ولقد حسبوا أنّ هؤلاء السياسيين قدرٌ سيئٌ، وبلاء عليهم أن يتعايشوا معه، بالإكراه حينًا، وبالنفعية والمصلحة حينًا، وبالاستزلام حينًا آخر.
ولكن، في مرحلة من التاريخ اللبناني الحديث، بدأ شيءٌ ما يتغيّر. فعندما بدأت المقاومة تطل على الناس وتتفاعل معهم، وبدأ حجم من المصداقية كان مفقودًا بين طرفي الشعب والسياسيين ينمو، فشعر الشعب أنّ ثمّة التصاقًا بهموم الناس وأوجاعها، وأنّ رجالًا يعملون في السياسة، ليسوا من القماشة المعروفة، وربما لا ينتمون إلى الثوب نفسه، وبدأوا يعبّرون عمّا يريده الكثيرون قوله، ولا يستطيعون.
وكبرت هذه الثقة، حتى بدأ الناس يشعرون أنهم أمام شيء مغاير ،فحوّل الكثير منهم المقاومة أيضًا إلى أسطورة، لا يصعب على رجالها شيء أو معضلة، طالما أنّها تفوقت في الامتحان الأكبر، وتجاوزت العقدة التاريخية في التاريخ العربي الحديث، فهزمت إسرائيل، وجعلت قيادتها وجيشها يضعون أقدامهم على الأرض. فأصبح التعلّق فيها أكبر، والآمال المعقودة عليها تتراكم،حتى اعتبر الكثيرون أنّ بمقدورها أن تفعل أي شيء تريده، أقلّه في لبنان.
بداية التحول في المزاج العام
ولكن التحوّل الكبير حدث في السنوات القليلة الماضية، عندما بدأت بوادر الأزمة الاقتصادية المالية في لبنان بالتفاعل، واقترب اللبنانيون أكثر فأكثر من رؤية المشهد الاقتصادي الحقيقي في البلد. عندها لم يصدّق الناس أنّ المقاومة التي هزمت أحد أكبر جيوش العالم،ولاحقت الإرهاب في كل زاوية، وتحت كل حجر في المنطقة، وفي قمم الجبال الشاهقة، وهزمته، وجعلت لبنان وبعضَ المنطقة آمنًا منهم ومن مشروعهم، هذا الإرهاب الذي مثّل السيف القاطع، والأداة الأنجع لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، كيف لمجموعة حققت كل هذه الانجازات العجيبة أن تعجز عن محاربة مجموعة من اللصوص والمفسدين في لبنان، يريدون قهر المواطن وانتزاع كرامة شعب تعايش لعقدين من الزمن مع شعور العزّة والحريّة والفخر، وحسب أنّ الزمن لا يستطيع العودة بهم إلى المربع الأول، مربع الإحباط والذّلة والخوف وهدر ماء الوجه على أعتاب السياسيين والإقطاع ووكلاء الاستعمار والصهاينة.
لقد حفرت المقاومة عميقًا في وجدان شعبها، فشعر كل فردٍ أنه أصبح مشعلًا للحرية يمشي شامخًا غير آبهٍ بكل التحديات، مستعدًا للدفاع عن هذا الشعور بالغالي والنفيس، وتفاقمت طموحات الشعب، حتى أصبح عسيرًا على أي أحد إقناعه بالفتات..
ولقد وصل التماهي بين الطرفين في فترة معينة إلى درجة كبيرة من الانصهار وذوبان الواحد بالآخر، ولكن في السنوات الثلاث الماضية، بدأ الجمهور يطرح تساؤلاتٍ كثيرةً عن سبب “العجز” في مقاربة الواقع الداخلي اللبناني بطريقة تحقق مصلحة المواطن، بغضّ النظر عن الطائفة والجماعة، ولم يجد أجوبة شافية. ما جعل هذا الالتحام يعتريه شيء من الغموض، وتكاثرت الاستفسارات، ولم يجد بعض الجمهور أجاباتٍ تطمئنه، وأحالت قيادة الحزب ذلك إلى اعتبارات داخلية معقّدة تتحكم بآلية العمل السياسي، ونظام الحكم، ما انعكس بشكل واضح على الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي..
تحوّل نوعي
لقد ظهر في مكان ما، أنّ ثمة ابتعادًا بين المقاومة وبعض بيئتها، وأنّ هذه الناس التي كانت تعلم ما سيقال قبل أن يقال، وجدت نفسها بعيدة عن المشهد، تحاول تفكيكه فلا تستطيع.
الحاج رعد يحطّم جدار الصمت
في مقابلته الإذاعية فجّر النائب الحاج محمد رعد عددًا من المواقف الجريئة عالية المستوى، وغير المسبوقة في مؤشر لبداية مرحلة من المصارحة والمصالحة مع شريحة واسعة من جمهور المقاومة ومحبيها في لبنان، فتكلّم بشكل مباشر ومن دون قفازات على الطبقة السياسية التي يتحكّم في سلوكها عنصر النفعية، وتحقيق المكاسب الشخصية، وكان اعترافه أنّ الحزب أخطأ في عدم تدقيقه بشكل كبير في الوضع النقدي بعد رحيل الرئيس رفيق الحريري، بسبب انشغاله (بلمّ) البلد الذي كان يقف على شفير الهاوية بعد جريمة ١٤ شباط؛ سابقة في تاريخ الأحزاب والسياسة اللبنانية، إذ نادرًا ما رأينا أحدًا من اللبنانيين يتجرأ ويعترف أنه أخطأ في مكان ما. وهذا إن دل على شيء، فهو دليل على صدقية وشفافية وجرأة الحاج رعد وما يمثّل.
الأمر الآخر الملفت في ما قاله رعد، هو مقاربته لموضوع الحكومة وخيار اللجوء إلى صندوق النقد، مع العلم بالخطر الكبير لهذه الخطوة على لبنان ومستقبل شعبه، فيقول إذا كان هذا خيار الأكثرية في الحكومة فلا بأس من طرق باب صندوق النقد، مع مراعاة عنوان السيادة وكرامة الشعب ولقمة عيشه. ولنرَ إلى أين سيصلون؟ وصرّح بوجود بدائل عن وصفة صندوق النقد، وقد يكون ذلك بالتوجه شرقًا نحو الصين، في خطوة كبيرة تحتاج إلى قرار جريء من الحكومة. ولكن الجملة المفتاحية في هذا الموضوع كانت ردًا على سؤال متى ذلك؟ رد :عند “استنفاذ خيارات البعض” فعندما تيأس القوى النافذة في السلطة من رهاناتها في طرح حلول تنسجم مع علاقاتهم الدولية، ويقتنعون ببدائلنا بالتوجه شرقًا، فنحن جاهزون.وقد يكون التوجه نحو الصين فيه الخلاص من الانهيار الاقتصادي للبنان. ولم يوفّر الحاج رعد الشركاء في الحكومة وفي السلطة، ويعترف أنّ الحزب لا يراهن كثيرًا عليهم، وهناك مرارة كبيرة منهم.
وعندما قارب التصدي لموضوع غلاء الأسعار دعا الحكومة إلى الحزم والنزول إلى الأرض، ومن غير المقبول أن يدفع المواطن ثمن سلعة أربعة أضعاف سعرها إشباعًا لنزق تاجر وجشعه. يسري ذلك على الصرافين، فالدولة الى الآن تلاحق الصرافين الصغار فقط، وعمل هؤلاء غير منفصل عن مجالس إدارات المصارف، والحاكم المركزي. ويختم رعد بأنّ الحزب يستفيد من أصوات الناس الذين هم صوت المقاومة للضغط على الشركاء لتحقيق المصالح الوطنية..
من يقرأ في سطور ما قاله رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، والرجل الهادئ والرصين، يدرك أنّ ثمة متغيّرًا قادم، وأنّ الحذر والمراعاة الذي اعتمدته قيادة الحزب في الخطاب والضغط، قد يكون شيئًا من الماضي. فهل نحن أمام مشهد جديد؟ ذلك ما ستثبت الأيام القادمة صحيحه من عدمه.
د. طارق عبود
كاتب وباحث